Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #18

nostalgie-premier-amourManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر
كيف كشفت أمّها النقاب عمّا كانت تودّ قوله ؟ هل يبدو تأثير لقائها المفاجئ به، بعد كلّ هذه السنوات واضحا إلى هذه الدرجة أم أنّه سحر خفي تملكه الأمّهات وحدهنّ ؟ إستجمعت شجاعتها و أجابت على سؤال أمّها الذي بدت الإجابة مستبطنة فيه " أجل أمّي ، لقد إلتقينا مجدّدا بعد أكثر ثلاث سنوات عقب الإنفصال... إلتقينا بمحض الصدفة و لا شيء ممّا بدر في ذهنك قد حدث... أنا و تيم لم نزل منفصلين... حتّى أنّه تزّوج و أنجب و لكنّه فقد زوجته إثر ولادة الطفل بشهرين.. " أشاحت بنظرها بعيد ا عن ملامح وجه أمّها المستنكرة لهذا الوضع الذي لا يروقها... تستطيع أن تقرأ ، بسلاسة ، ردّة فعل أمّها... لا شكّ في أنّها ستطلب منها، بكلّ لطف ، أن تقطع صلتها به و أن لا تعاود رؤيته ...

ستخبرها أنّه عليها أن تتجاهله حتّى إن وضعه القدر مجدّدا في طريقها... ستذكّرها بتلك الليلة التي عادت فيها دامعة العينين بسببه و ستذركّها بألم الخذلان الذي كان هو وراءه حين تركها تذهب دون أن يكلّف نفسه عناء التمسّك بها رفيقة درب و شريكة حياة... و قبل أن تباغتها أمّها بقول ما لا تريد سماعه، بادرت بالحديث قائلة " أمّي... أدرك جيّدا ما يدور في خلدك... ستذكرينني بواقع مرير عشته و مازلت أتلمّس الطريق نحو الخروج منه نحو أفق جديد... أعلم أنّك تريدين حمايتي..أقرأ في عينيك قلقك الشديد بشأني و على ما سيحدث بعد ظهوره مجدّدا في حياتي ... و لكن با أمّي.. هذا هوّ قدري... لا أعلم ماذا سيتلو هذا اللّقاء... لا أستطيع أن أجزم بأنّني سعيدة بهذا اللّقاء و لكنّي لا أستطيع أيضا أن أنكر حاجّتي الملحّة لأعيش الحالة...أنا لم أنسه بعد يا أمّي...ريّما سيكون لقائي به الآن مغامرة وجود...ستنتهي في كلتا الحالتين بخلاصي... خلاص برفقته أو دونه... كلّّ ما أشعر به هوّ أنّني لا أستطيع أن أوقف ما يحدث...أينما ذهبت وجدته يلاحقني ... لا تطلبي منّي أن أتجاهل ظهوره في حياتي يا أمّي .. أرجوك.. "

ما كان من أمّها إلاّ أن تركت مكان جلوسها و إنتقلت إلى جانبها... أخذت القدح من بين يديها المرتعشتين... وضعته على المنضدة و جذبتها إلى حضنها... مرّرت باطن كفّها على جبينها كما كانت تفعل حين كانت طفلة و كانت هذه الطريقة  الوحيدة لمساعدتها على النوم... خاطبتها بحنو " ماذا بوسعي أن أقول؟ أعلم جيّدا أنّك لم تخرجي من قصّتك معه بعد و ليس أمامي سوى أن أطلب منك رفقا بنفسك... تذكّري دوما أنّك أهمّ شخص في حياتك و أنّ لا أحد سيجلب لك السعادة غيرك... إعتني بإبنتي فهيّ أمانة بين يديك... لقد حان وقت عودتي إلى أرض الوطن.... تعلمين أنّ والدك و أخويك بحاجتي أيضا... لقد إقتطع لي والدك تذكرة العودة عبر الإنترنت اليوم... ستقلع طائرتي غدا على الساعة الثامنة مساءً...

حتى أنّني لن أتمكّن من رؤية هند و إبنها... "... إنتفضت تاركة حضن أمّها... نظرت إليها كما ينظر طفل إلى والدته و هي تودّعه على باب المدرسة" ستعودين غدا؟ لماذا لم تخبريني بموعد عودتك مسبقا أمّاه؟! إبقي معي مزيدا من الوقت أرجوك... " يبدو أنّ أمّها لن تتراجع عن قرار العودة فهيّ إمرأة تدرك جيّدا مسؤولياتها و تدرك أيضاً أنّ زوجها يصبح كالصغير التائه دونها.... عادت بها الذاكرة إلى أيّام الطفولة و المراهقة... حين كانت منبهرة كليّا بقصّة حبّ والديها... ذاك الحبّ الذي لم  تشهد له مثيلا... ذاك الحب البسيط... المليء بالتفاني و الوفاء و العطاء اللاّمحدود من كلا الطرفين... تذكر جيّدا أنّ أمّها تمتنع عن تناول الطعام حين يغيب والدها أو حين يتأخّر في عمله..... كانت تنتظره لساعات طويلة لكي يتشاركا الطعام... تذكر أيضا أنّ والدها كان يقتنص الفرصة تلو الأخرى كي يسعد أمّها بحركات بسيطة كأن يعدّ لها طعام العشاء أو أن يهديها وردة... كان حبّهما، و مازال، الحلم الذي تتوق إليه... لطالما حلمت بحياة كحياة والديها.... لقد عايشت تشاركهما الفرح و الحزن، السعادة و الألم... كانا يغفران لبعضهما البعض الأخطاء و زلاّت اللسان... يحتوي كلّ منهما لحظات غضب الآخر... لذلك تجاوزا كلّ العقبات التي إعترضتهما و حافظا على علاقة إستثنائية، مميّزة جعلتهما مصدر سعادة أطفالهما الثلاث... تذكّرت يوم حدّثها والدها، أثناء إحدى سهرات السهر و السمر الصيفية.... حين كانت تجالسه على شاطئ البحر، عمّا سمّاه بمعادلة الزواج... أخبرها حينها بأنّ الزواج هوّ مشاركة بالأساس، مؤازرة الزوجين لبعضهما البعض... بعيدا عن العتاب و الحساب و الحواجز التي لا محلّ لها من الإعراب سوى أنّها تعيق مسار السعادة... لا يمكن أبدا أن تنسى كلمات والدها... فهي بمثابة الحكمة الراسخة في ذهنها....


غادرت المطار، بعد أن أقلعت طائرة أمّها، و في قلبها ألف آه و دمعة حزن... كم تمنّت أن تتنصّل من كلّ مسؤولياتها و أن تترك إلتزاماتها و ترافق والدتها إلى أرض الوطن... هناك... حيث ينتظرها والدها... أخويها... عائلتها... أصدقائها و كلّ ذكرياتها... هناك حيث كان ميلادها و حيث تتمنى أن يكون مثواها الأخير... عادت بها الذاكرة إلى اليوم الذي حزمت فيه حقائبها عاقدة العزم على الرحيل... ذاك اليوم الذي كانت فيه الهجرة ملاذها الوحيد...

لقد كان قرار الرحيل أصعب قرار إتّخذته في حياتها... لقد قرّرت، حينها، أن تترك وراءها حياة برمّتها.. لن تنسى الدمع المترقرق في عيني والدها الذي لم يمنح نفسه صلاحية منعها من الذهاب رغم أنّه  كان يعلم أنّها ما كانت لتذهب لو منعها من ذلك...

لن تنسى أدقّ تفاصيل ذلك اليوم الذي كان نقطة فاصلة في حياتها... ربّما لو لم تنفصل عن " تيم" و لو لم تقرّر الهجرة إلى باريس لما وصلت إلى ما هي عليه اليوم من مكانة علمية و أكاديمية.. ربّما كان الإنهيار  ليلفّ مصيرها إذا بقيت في نفس المكان و رأته و هوّ يتزوّج بأخرى...

في نهاية الأمر هي لم تخسر الكثير مقابل ما ربحته... ربّما خسرت وقتا كان من الأجدى أن تمضيه مع أحبّائها و لكنّها كسبت نفسها على الأقل...

ربّما فقدت الشعور بالإنتماء، كما هوّ حال جلّ المغتربين، لكنّها لم تتوقف عند الحدود الضيّقة لمفهوم الوطن... فقد صنعت لنفسها في الغربة وطنا... حوّلت جدران المنزل الباردة إلى لوحة حائطية تزدان بصورها رفقة والديها، أختها و أخيها و كلّ الأشخاص المهمّين في حياتها... أمّا صورته... فهي لم تكن في حاجة إلى وضعها على الحائط لأنّ تقاطيع وجهه محفورة في ذاكرتها... لقد نقلت تراث بلدتها الجنوبية إلى ديكور منزلها الباريسي المصمّم على النمط الإيطالي...

 لقد حاولت ، قدر اللإمكان ، أن ترتقي بوجودها إلى مصاف الإستثناء... هكذا علّمها والدها... أن تحوّل إنكسارات نفسها إلى إنتصارات... أن تعتدّ بذاتها و أن لا ترفع البتّة راية الإستسلام... هي هنا... بفضله... بفضل توجيهاته... هي ما هي عليه فقط لأنّها إبنته... فلكلّ شخص وطنه الذي يعيش فيه أمّا هيّ فوطنها يقيم بين ثنايا قلبها و نفحات روحها.. وطنها يعيش داخلها... وطنها هو والدها الذي تهواه حدّ النخاع...

كم تشتاقه و تحتاج لقاءه... سماع صوته... الإتكاء على كتفه و وضع رأسها في حضنه... كم تحتاج أن تقبّل ذقنه المزيّن بالشيب... كم تحتاج أن تتلمّس تجاعيد يديه و أن تراقب تقاسيم وجهه الجميلة... أن تتقاسم معه الجريدة و أن تتناقش معه حول آخر كتاب طالعاه... أن تقلّم أظافره و تسرّح شعره...  أن ترشّ العطر عليه ...أن تختار ربطة العنق المناسبة لحلّته... أن تعدّ له قهوة المساء و تشاركه إياها في إحدى شرفات المنزل... تشتاق والدها و كفى...

لم تعد قادرة على التحمّل... لقد تمكّن منها الشوق و أنهكتها الحاجة إلى الطمأنينة التي لن تجدها إلا في وطنها... مع والدها... عشقها الأبدي... رجل حياتها عن جدارة... ستحاول العودة إلى أرض الوطن في أقرب فرصة ممكنة...
ما إن ترجّلت عن التاكسي الذي إستقلّته في طريقها من المطار إلى الجامعة حتى رنّ هاتفها و كان المتّصل رقما مجهولا... رفعت السماعة إلى أذنها فتناهى صوته إلى مسامعها... ذاك الصوت الرخيم.. نفث  فيها الروح من جديد... ذاك الصوت الرنان هو الوحيد القادر على إزالة جليد قلبها... من أين تحصّل على رقم هاتفها يا ترى؟ و لماذا يتّصل؟


تأتأت قبل أن تردّ عليه...لملمت شتات أنفاسها المبعثرة هنا و هناك و قالت " كيف حالك تيم ؟ "... جاء الردّ سريعا بأنّه بخير و بأنّه يودّ المشاركة في تأسيس و تنشيط جمعيّة أصدقاء الضّاد... ما يودّه فعلا  هوّ لقاؤها... فما عاد قادرا على التراجع...ماعاد يقوى على مماطلة قلبه و مغالطة مشاعره... ماعاد هناك مجال لإخفاء لهفته على وصالها... أنهيا المكالمة بعدأن إتّفقا على موعد يجتمع فيه ثلاثتهم : لين، تيم و كولييت... أقفلت الخطّ... إختفى صوته ليحلّ محلّه صوت دقات قلبها المتسارعة... مازال نبضها يطلق ساقيه للريح كلّما قابلته، سمعت كلماته أو حتّى لمحت ظلّه من بعيد... إنّه الحب لا محالة ... إنّها لعنة الحب...لعنة التيه اللذيذ تعود إليها من جديد... وها هي تنساق وراء ذبذبات العشق المجنونة... هاهي تعود عن قرارها الذي ظنّته نهائيا...قطعيا....إلى الأبد...هاهي تحنث بوعدها أمام نفسها بأن لا تسمح لقلبها بمنصب السيادة في مشوارها في هذا العالم...إبتسمت بتحفّظ...لقد أعلنت تجاهلها لصوت العقل، للمرّة الأولى في حياتها، و ستمضي في ما خطّطه لها القدر لترى إلى أين ستأخذها الحياة هذه المرّة... وضعت هاتفها في جيب سترتها و دلفت إلى الجامعة  للقاء طلابها في إطار ناد مسائي للقراءة تنشّط فعاليته بمعيّة عدد من زملائها... ستمضي ليلتها و هيّ تتحرّق شوقا للقياه... ستعدّ الساعات، الدقائق و حتى الثواني في إنتظار حلول الغد....

حلّ الغد بعد أن طال إنتظارها ، أو هكذا خيّل إليها...نظرت إلى السماء من  وراء النافذة فلمحت الشمس في كبدها... حيث بدت لها شديدة اللمعان... أكثر من أيّ وقت مضى...و كأنّها بالشمس تشرق في حياتها من جديد... ربّما تتحوّل لعنة الحب إلى نعمة...غادرت المنزل في إتّجاه محطّة المترو.... إنّه يوم عطلة و يبدو أنّ الجميع... جميع من ألفت وجوههم قد إختاروا أن يكونو اليوم بيتوتيين...أمّا هي فقد جعلت من إجتماع وضع أبجديات الجمعية تعلّة مناسبة لتلقاه بعد أن أزيلت ستارة الماضي و  ما عاد للعتاب مكان بينهما...ستحاول اليوم أن تخلّص ما يجمعهما من شوائب اللّعنة و أن تحوّله إلى هبة من السماء...

حلّ ركب المترو الذي ستستقلّه متّجهة نحو المقهى الثقافي الذي عُقد الموعد المحدد فيه... إتّخذت مكانها المعتاد قرب النافذة... وضعت سماعاتها للإستمتاع إلى موسيقاها الصباحيّة المفضّلة ... أردفت ذقنها بقبضتها و أخذت تفكّر... كيف لها أن تسعد بلعنة حبّه و الحال أنّها تقيّد حريتها و تجعل منها حبيسة أنفاسه،  أسيرة نظراته،  سجينة حضوره الصامت الصاخب المدمّر... خطرت ببالها قصّة إساف و نائلة التي تعود إلى الميثولوجيا العربية...  إذ تروي الأسطورة أنّ إساف و نائلة كانا شابان عاشقان من عرب الجاهلية ينحدران تحديدا من قبيلة " جرهم" و أنّهما قد مسخا صنمين كعقاب لهما من السماء على لقاء محرّم في حرم الكعبة... كلّما شبّهت حبّها السرمدي له باللعنة خُيّل لها أنّها قد تُمسخ صنما.... ضحكت من نفسها و من خيالها الخصب الذي يساعدها في إستبدال هذا العالم بعوالم أخرى... تذكّرت إحدى العبارات التي تعوّدت سماعها منه... لطالما كان يردّد " المجد للمجانين في هذا العالم البليد..."  و يبدو أنّها قد  نالت مجد الجنون في عالم العقلاء المزيفين...

وصلت إلى مكان اللقاء... همّت بالدخول حين إستوقفها صوته و هوّ يلفظ إسمها بنبرة تكاد ترديها قتيلة... إلتفتت فوجدته وراءها... رفعت نظرها إلى وجهه السمح فعثرت على قلبها المفقود في غياهب عينيه..  إنّه هنا...  لم يتخلّف عن الموعد... ها قد حضر بطلّته البهيّة.... لم يحلق ذقنه... ربّما لأنّه يعلم أنّها تعشقها... كانت السيجارة رفيقته كالعادة... كان يحمل في يمناه كتابا لم تتمكّن من تمييز عنوانه... ألقت عليه تحية الصباح بإبتسامة عفوية كاد ينهار حبّا أمام جبروت  ألقِها... إقترب منها و قال همسا " تبدين مشرقة اليوم... كما شمس الأصيل في يوم ربيعي..."  يا الله.. كم مرّ من الوقت مذ لقي سمعها عبارات حبّه الأنيقة أناقة روحه؟.... ماذا عساها تقول؟  من المفترض أنّه يعلم أنّ لغة الكلام لديها شحيحة و أنّها،  حين كانا ثنائيا،  كانت تلجؤ إلى الرسائل النصية كي تبوح له بما يحمله قلبها....

  يبدو أنّه لم ينس تفاصيل شخصيتها...  فقد دفع باب المقهى و مضى إلى إحدى الطاولات...  و كأنّه كان يدرك،  منذ البداية،  أنّه لن يلقى على كلامه جوابا... جلست قُبالته و هي تشعر بإهتزاز المكان و الحال أنّ كيانها هوّ الذي إهتزّ...  هذا الإرتباك الذي يصيبها في حضوره حلو كحلاوة المذاق المرّ للقهوة...  ربّما يشبه القهوة في سماره أيضا... يكاد قلبها أن يخرج من صدرها... تتمنّى أن يتوقّف الزمن في هذه اللحظة بالذات و لكن هيهات... فقد أفسد النادل روعة اللحظة طالبا منهما إختيار ما سيطلبانه من القائمة الموجودة على الطاولة.... كان إختيارها عشوائيا و كذلك بدا إختياره... لقد كان يشعر بتبعثر روحه و تذبذب وجوده في حضرتها.... لطالما سلبته هذه الحوراء عقله و جعلت منه طفلا في هواها...  كان الوقت يمرّ و لم تحضر " كولييت"  بعد... و قد كان الصمت سيّد الموقف بينهما... ربّما لأنّه يكون،  في بعض الأحيان،  أبلغ من كلّ لغات العالم... فجأة و على حين غِرّة،  قطع رنين الهاتف حبل الصمت الرابض بينهما و كانت " كولييت"  تعتذر لأنّها ستتخلّف عن الموعد بسبب مرض مفاجئ ألمّ بخالتها المسنّة... ها قد حوّل القدر هذا اللقاء من موعد عمل إلى موعد ثنائي يجمعهما بعد سنوات من ألم الفقد و عذاب القهر... هل ستكون ممتنّة للقدر بعد هذا اليوم؟...




منال عبد الوهاب الأخضر

لعنة الحب الأول #18