تلعثمت كلماتها و خرجت بصعوبة "كنت أبحث عن مكان أقتني منه قنينة ماء" إبتسم تلك الإبتسامة الساحرة المعهودة و قال " مسرور جدا لأنك لم تتجاهلي دعوتي... لقد حجزت لك مقعدا في المقدمة... قبالة المنبر مباشرة...

"تجتاحها رغبة جامحة في معانقته بالكاد تكبحها.... لملمت شتات أنفاسها بإبتسامة خجولة و أجابته " كيف لي أن أفوت لحظة رؤيتك ترتدي ثوب الشاعر... هذا الثوب الذي أظنه يليق بك..." خلف إبتسامتها الهادئة كانت تختبئ ضحكة جنونية و نوبة هستيرية من البكاء....

تضحك هزءا من نفسها و من هذه الإجابة التي أتت من حيث لا تدري و تبكي لأنها لا تدرك ما يصيبها عندما تراه... و كأن الزمن توقف قبل ثلاث سنوات... و كأنهما لم ينفصلا...أو ربما هذا ما ترجوه و لكنه محض خيال... أضغاث أمنيات

كان يرتدي حلة رمادية اللون... الرمادي لونها المفضل و هو يعلم ذلك... هل تعمد إرتداء الرمادي حتى يزيد شقاءها؟... لحيته تبدو مرتبة مهذبة تهذيب روحه كما عهدتها... بدأ الحضور بالدخول إلى المسرح ليأخذ محله... تبعته ليدلها على مقعدها... و كان فعلا في الصف الأمامي محاذيا للمنبر... ماالذي يقصده بإختياره هذا المقعد بالذات لها؟ هل تسعده رؤيتها و حضورها إلى هذه الدرجة؟ أين تراه سيجلس حبيبته؟ من المحال أن يبقى رجل مثله دون حبيبة؟ إنه يمثل إغراء لكب نساء العالم دون مبالغة... فهو رجل يؤمن أن السعادة التي تبعثها وردة في نفس الأنثى أبلغ بكثير من أثمن المجوهرات... هو رجل يؤمن بأن الحب جنون أو لا يكون... يرى في الأنثى رفيقة... صديقة... وطن... هو رجل إستثنائي فكيف له أن يبقى دون حبيبة؟ تتمنى من صميم وجدانها أن لا تكون في حياته إمرأة غيرها... فوجودها سيذبحها

تمنت له التوفيق قبل أن يذهب... إكتشفت لتوها أن الأمسية الشعرية عربية بإمتياز... تكريم للغة الضاد من قبل جملة من المثقفين العرب المغتربين في فرنسا و دول أوروبية أخرى... لطالما كان متمسكا بهويته العربية شأنها... هذا التمسك بالعروبة هو أول ما جمعهما... أول الخيوط التي نسجت حبهما...
خففت الأضواء... أسدل الستار... و بدأ الدوي الذي يصدر عن حديث الحاضرين يخفت... الأمسية الشعرية على وشك الإنطلاق... سكت الجميع... فتح الستار ليظهر مقدم الحدث معلنا بدايته متمنيا للحضور الإستمتاع بوقتهم... و كانت البداية معه... أعلن إسمه فتسارعت دقات قلبها... خرج من غرفة الكواليس فبدا كفارس جبار يحمل راية وطنه مدافعا عن حرمته... هو كذلك... فارس جبار يدافع عن عروبته... عن قداسة لغته... عن هويته... هكذا كان... هكذا سيظل... لذلك وجدت نفسها مغرمة به إلى ما لا نهاية... غرام لم ينهيه الإنفصال بل زاده جنونا و عمقا... إعتلى المنبر... عدل الميكرو... رمقها بنظرة مبهمة رافقتها إبتسامة ذات مغزى... إبتسامة تقول لها " إستمعي إلي جيدا..." وضع يديه على طرفي المنبر...همهم قبل البدء.... إنطلق في إلقاء ما جادت به قريحته... "أخاطبكم و أخاطب نفسي فيكم... أخاطب الإنسان أينما و كيفما كان... أخاطب عروبتنا المجروحة، المغدورة، المنسية.... أخاطب أمة إقتلعت جذورها بنفسها... عليها الآن أن تعيد زرعها... أحبائي... لنا الفن حتى لا تميتنا الحقيقة كما يقول الألماني نيتشه..."

وجدت نفسها تصفق بقوة دون وعي منها... " لنا الفن حتى لا تميتنا الحقيقة..." عبارة نيتشوية لطالما لجأت إليها في محادثتهما حول جدل الفن و الحقيقة... إنها هنا... موجودة في أفكاره... محفورة في ذكرياته... ربما ليست في حاضره و لن تكون في مستقبله و لكنها موجودة داخله... ترى هل سيكون شعره بروعة المقدمة التي ألقاها؟ بدأت عباراته تأخذها إلى حيث أراد لها القدر اليوم أن تكون....

بدأت تستمع إليه دون كلل أو ملل... تسكن في كل تعبير من تعابيره... كل تشبيه من تشابيهه يشبه جزءا من أجزاء روحها... حبيبها أصبح شاعرا.... ربما كان دوما كذلك و لكنها لم تر فيه قبلا ما تراه اليوم

بدا الجميع معجبا بما يقدمه... هذه الصور المجازية التي تنقل شغف رجل بلغته و كأنه طفل شغوف بأمه... هذه اللغة التي تبدو أحيانا محبوبته و أحيانا أخرى إبنته، جعلت من نصه فوق الرائع... هذا النص يحكي قصة رجل إرتضى لنفسه هويته التي حملها إليه التاريخ قدرا مقذوفا إليه...

وقفت تلقائيا و  أخذت تشد على يديها شدا حتى تزداد قوة تصفيقها... لقد إنتهى من إلقاء نصه الشعري و إنتهت معه لحظات تأملها لرجل تركته فتركتها الحياة بعده... إنسحب من المسرح ليترك مكانه لشاعر آخر... لم تكد تنهي مواجهة مخاوفها حتى حل ركبه عليها.. إتخذ لنفسه مكانا في المقعد المجاور لمقعدها في صمت و هدوء زادا من إرتباكها... هذا الرجل يكاد يقتلها أو ربما فعل و إنتهى الأمر... بدأ الشاعر بإلقاء نصه فحاولت الإنجذاب إلى ما يقوله دون جدوى... حاولت إستعادة تركيزها و لكنها عجزت عن ذلك... فهي لا تفكر في سواه.. تحاول أن تتوقع الحوار الذي سيدور بينهما إثر إنتهاء الأمسية... ربما سيخبرها أن حبيبته تأخرت لظرف قاهر... أو ربما سيعرفها على زوجته.. ربما... و ربما... تكاد الإفتراضات تنحرها.... ماذا ينتظرها يا ترى؟