Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #6

rupture-copainManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر
إنتهت الأمسية الشعرية و بدأ الحضور بالإنصراف...همّت بالنهوض كي تغادر بدورها و هي تضمر في نفسها نيّة الهروب...أجل...تنوي أن تهرب منه...من عينيه...من ماض يتلبّسها...من ذكريات ترافقها كما يرافقها ظلّها...

تركت مقعدها مسرعة ظنّا منها أنّه لن ينتبه لمغادرتها و هو محاط بالمهنّئين...لكن القدر مصرّ على أن يكبّدها عناء المواجهة...تسلل صوته بثبات إلى مسمعيها و كأنّه يأمرها أن تبقى في مكانها " إنتظري لماذا العجلة ؟ و كأنّك تهربين ؟"

فاجأها السؤال و نبرة صوته التي تعبر عن غضب مكتوم...لن تتوه عن صوته فهي تعرفه حقّ المعرفة...لم تتقدّم خطوة واحدة...إنصاعت لأوامره دون وعي منها...إلتفتت و هي تتصنع إبتسامة تخفي خلفها خوفها...صدمتها و إرتباكها..." لابد لي من المغادرة ...لديّ الكثير من المشاغل التي تنتظر منّي الإنجاز..." قالت ما قالته و هي تدرك جيّدا مدى غباء إجابتها...و لن تنتظر منه أن يغضّ النظر عن تهرّبها من البقاء و الحديث معه...تقدّم نحوها بنظرة حادّة تشبه نظرة الصقر المنقضّ على فريسته... يبدو أنّه لا مفرّ لها منه...سينصب لها المحاكم التّي لم تنصب قبل ثلاث سنوات ...حين إفترقا و آثرت السفر... لا بل الهرب...إزدادت دقات قلبها و تسارع نبضها و كأنّها تواجه "خطر موت"...وقف أمامها بعنفوان قاض يملك بين يديه أدلّة دامغة تثبت إدانة المتهم الماثل أمامه... قال لها و هو ينظر مباشرة في عينيها " ألا تظنين  بأنّني في حاجة إلى أن أسمع رأيك في النّص الذي ألقيته؟ أليس هناك ما علينا أن نتحدّث في شأنه ؟ " إختنق صوتها و ضاعت عنها كلماتها و خانتها لغتها...و الخوف كل الخوف من أن تخونها عيناها...إختفى الجميع من حولها... لم تعد ترى سواه...قاطعها متسائلا " ألازالت تصرّين على المغادرة ؟ "...

ها قد حشرها مجدّدا في الزاوية ووجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه...عليها أن تلملم شتات نفسها و تواجه قدرها المحتوم...سوف تبقى ليس إختيارا بل إكراها...فهوّ يجبرها بطريقة

أو بأخرى على البقاء...إستدعت بصعوبة صوتها الغارق وراء موجات الخوف و الجبن و وجهت نظرها نحوه محاولة أن تبدو بحلّة الواثقة من نفسها و قالت" لا ضرر في أن أبقى لبعض الوقت...سأنتظر هنا قليلا..." إرتسمت على شفتيه تلك الإبتسامة الساخرة التي تعرفها جيّدا...لازالت قادرة على فكّ لغز ردّات فعله و قراءة لغة جسده...هو يعلم جيّدا أنّها كانت لتغادر لو لم يلق عليها القبض و هيّ تهمّ بالرحيل...يدرك أنّها وافقت على البقاء، فقط، لحفظ ماء الوجه...حتى لا ينكشف جبنها أمامه... وقفت في إحدى الزوايا تنتظر أن ينتهي من إستقبال التهاني بنجاح الحدث...كانت في  حيرة من أمرها... تحاول أن تتوقّع ما سيحدث و لكنها لا تستطيع... لم تزل قلقة بعد فوجدته يتّجه نحوها...إلى أين المفرّ؟ عليها الآن أن تستعد لمواجهة ما ينتظرها من أسئلة...ربّما ستحمل عتابا أو لوما يصل إلى حدّ الإتّهام و المحاكمة... رافقها إلى الخارج مقترحا عليها مشاركته إحتساء كوب من القهوة المثلّجة...لماذا إختار هذا المشروب بالذات؟ ألرمزيته ؟ لن تنس أنّها دعته لإحتساء نفس المشروب يوم طالبته أن يختار بينها و بين القضيّة...بينها و بين إلتزام ثابر من أجله طوال حياته...تذكر جيّدا أنّها صرخت في وجهه يومها مطالبة بحقّها في أن تعيش و إيّاه حياة طبيعية...دون أن تركض باحثة عنه كلّما إعتقل على خلفية آرائه السياسية... دون أن يتحوّل لونها إلى الأصفر كلّما رنّ هاتفها خوفا من سماع خبر إختفائه أو إعتقاله أو تعرّضه للضرب...ربّما كانت جبانة و إختارت أقصر الطرق... ربّما كانت أنانية حين طالبته بالتضحيّة بمبادئه من أجل إستمرار علاقتهما... ربّما إبتزّته حينها و راهنت على حبّه لها و لكنّ رهانها كان فاشلا...فهوّ لم يخترها بل بطالبها بدوره بأن تتكيّف مع حياته  إذا كانت تحبّه...هكذا الأمر ... عاندته فعاندها...فكانت النتيجة هي الإنفصال...تنهّدت بقوّة فذكّرتها تنهيدتها أنّ كل ما حدث ليس سوى ماض و عليه أن يبقى كذلك.... وصلا إلى المقهى و إختارا إحدى الطاولات ليجلسا...و كانت هذه من المرات النادرة التي لا تهتّم فيه بمكان الطاولة... كانت كلّ الظروف مشابهة لظروف ذلك اليوم الذي وضعا فيه نهاية لقصّتهما...حضر النادل و أخذ طلبهما... و كاّن الوقت يتفنّن في تعذيبها...لماذا لا يقول ما يريد قوله و ينهي هذه " الحرب الباردة " القائمة بينهما تحت غلاف الصمت... هذا الصمت القاتل...هذا الصمت الذي لطالما كان حلاّ سريعا يلجآن إليه كلّما إشتّد خلافهما...

قرّر أن يقطع حبل الصمت أخيرا... قرّر أن يعلن عليها الحب الغاضب... فكّ إشتباك أصابعه ووضع يديه على طرفي الطاولة ... نظرت إلى حركته  فأدركت فورا أنّه سيبدأ الحديث...لم تنس أيّا من تفاصيله الدقيقة...هكذا هي الأنثى ...إذا أحبّت تغللت فيها تفاصيل حبيبها إلى يوم يبعثون... و صدق حدسها فما لبث أنّ خاطبها قائلا " ألا يذكّرك هذا الوقت من اليوم بشيء؟ القهوة المثلجة و فصل الخريف ... ألا تعنيك كلّ هذه التفاصيل؟..." جفّ حلقها و باغتتها صعوبة في التنفّس... رمقها بنظرة غاضية و كأنه يصرخ في وجهها أن أجيبي ... حاولت أن تستعيد توازنها...حرّكت شفتيها ببطء و تردّد و قالت " كلّ هذه الأمور تذكّرني بنفس اليوم الذي تذكّرك به... حين إنفصلنا..." إرتفع صوت ضحكته الساخرة الّتي تعبّر، عادة ، عن توتّره و غضبه... " أخطأت التعبير...ذاك اليوم لم يكن اليوم الذي إنفصلنا فيه...لقد كان اليوم الذي خاب فيه أملي فيك...اليوم الذي إكتشفت فيه أنّ قصّة حبّي لم تكن سوى وهم... حلم تحوّل إلى كابوس...ماذا بوسعي أن أقول ؟

في ذلك اليوم أنت لم تنفصلي عنّي بل هربت منّي...ربّما هربت من نفسك الأساس..." أنزل نظره إلى الأسفل و كأنّه يعلن أسفه... هل يتأسّف لأنّ إمرأة مثلها مرّت بحياته؟ ضحك مجدّدا رافعا سبّاته نحوها و قال " أرأيت؟ لا تستطيعين إنكار الأمر...لا تملكين الجرأة حتّى كي تنظري في عيني....ربّما تغيّرت .... إزددت جمالا... لكنّك لازلت إمرأة جبانة..." همّت الكلام كي تضع حدّا لهذا الهجوم الّذي يشنّه عليها و لكن النادل قاطعهما... إنصرف النادل بعد أن وضع أمامهما ما طلباه...

إستغلّت الفرصة كي تادر هيّ بالكلام...كي تسبقه و تردّ هجومه عنها قبل حتّى أن يشنّه...ضغطت على يمناها بكلّ ما أوتيت يسراها من قوّة و كأنّها تشدّ أزرها بنفسها....رفعت صوتها في وجهه مثلما فعل " لا تملك الحقّ في أن تحاسبني ... لا تملك الحقّ في نعتي الجبن...و ما الداعي لكلّ هذا العتاب الآن ؟ لماذا لم تقل ما قلته اليوم في ذلك الحين ؟..." لم تدرك ما قالته للتوّ...لم تكن قد فكّرت في كلماتها... ما إختارتها و ما زوّقتها... كلامها كان وليد اللحظة...هذه اللحظة التّي ذبحها فيها...همّت بالمغادرة حتّى تقطع أمامه طريق الإستمرار في أذيّتها...دفعت الكرسي و إستقامت واقفة و قبل أن تخطو الخطوة الأولى قاطعها قائلا " ما لم أقله حينها سأقوله الآن...هذه المرّة لن أسمح لك بأن تتركيني...لأنّي من سيترك المكان أوّلا...أمرك لا يهمّني...فقط أردت أن أفرغ ماضي منك...و أن أخلّص ذكرياتي من لعنتك...قلت ما أردت لك دوما أن تسمعيه منّي...أنت فصل بائس من فصول حياته...إنتهى و لم أكن أنوي البتة العودة إليه...الآن فقط سأشعر بالراحة..." هي على وشك أن تفقد وعيها... كيف إستطاع أن يكلّمها بهذه الطريقة؟ أيكرهها لهذه الدرجة؟ هل إنتهى منها فعلا؟...كانت بصدد مواجهة هذا السيل الجارف من الأسئلة حين أدركت أنّه غادر فعلا...يبدو أنّه غادر هذه المرّة إلى الأبد...عليها أن تستوعب أنّها قد تلقّت للتوّ عقابها الذي تأجلّ كلّ هذه السنوات...عليها أن تستوعب...حسبها أن تستوعب...ستحتاج بعض الوقت و لكنّها سوف تتجاوز الأمر..ليست واثقة من قدرتها على حماية نفسها من الألم ، كما إعتادت ، هذه المرّة...



منال عبد الوهاب الأخضر
 لعنة الحب الأول #6