Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #19

amour-interdit-parisManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر

ما إن أقفلت الخط و أعادت الهاتف إلى مكانه في الحقيبة بيدين مرتعشتين حتى سارع إلى سؤالها و كأنّه قد غنم لتوّه كنزا لا يفنى " ألن تأتي صديقتك إلى الموعد ؟ "... بدا الفرح و نشوة الظفر بالفوز طاغيان على نبرته... هو هكذا... لا يستطيع أن يخفي ما يخالجه من مشاعر... هزّت رأسها في إشارة صامتة إلى أنّ " كولييت " لن تحضر و أنّ الحال إنتهى بهما وحيدين...ساد  بينهما صمت قصير  قبل أن يغامر و يسألها ، و هوّ ينقر بأطراف أصابعه على سطح الطاولة ، " هل لديك إلتزامات أخرى لهذا اليوم ؟ " هل آن الأوان كي يقف القدر إلى جانبها اليوم ؟ هيّ تدرك جيّدا ما يخفى وراء هذا السؤال... مازالت تحفظ تفاصيله و تستطيع أن تتوقّع ردّات فعله... سوف يطلب منها أن يمضيا اليوم معا و هي بدورها لن ترفض... لن تسمع إلاّ صوت قلبها هذه المرّة... فربّما يكون الخلاص فيه...

رفعت نظرها إليه فلمحت وجهه قلقا في إنتظار جوابها... إبتسمت معلنة تمرّدها عن كلّ مقاييس الواقع و معايير المنطق اللّذان يفرضان أنّه رجل محرّم بالنسبة لها...إستجمعت ما تبقّى من صوتها ، الذي يختفي في حضرته ، و قالت " أنا اليوم حلّ من كلّ الإلتزامات... ليس لديّ أي إرتباطات أخرى.."... كاد يقفز من مكانه فرحا بجوابها... عدّل من جلسته بما يوحي أنّه مستعدّ للمغادرة و قال " إذن فلنمضي اليوم معا..." هزّت رأسها مرّة أخرى موافقة على إقتراحه و إستطردت مستفهمة " لكن، إلى أين سنذهب؟ " ... عاد بكرسيّه إلى الوراء و وقف رافعا يديه في حركة تساؤليّة " لا أعلم إلى أين ستكون الوجهة... ما يهمني أنّنا سنكون معا... مجدّدا... اليوم على الأقلّ..."

ها  قد بدأ نبضها يتسارع مرّة أخرى... فقط لأنّها تخيّلت أنّهما سيكونان معا مجدّدا... ألا يبدو الأمر مثل السحر...و كأنّ هناك من ألقى تعويذة، في الخفاء ، جعلت القدر يستحيل حليفا لها... كلّ هذا لا يهمّ... كلّ ما يهمّ الآن هوّ الفرصة التي أتيحة أمامهما لإنقاذ حبّهما... ربّما تولد علاقتهما من جديد... ربّما تنبعث من تحت رماد إحتراقهما شوقا إثر الفراق....
تركا المقهى الثقافي دون أن يدور بينهما أيّ كلام سوى ذاك الذي قالته العيون... و ما أبلغ لغة العيون التي تكشف ما يعجز اللسان عن كشفه...وصلا إلى الشارع الذي توجد فيه كنيسة " Notre Dame De Paris " ... أكبر كنائس باريس...خطرت ببالها فكرة...أو ليست الكنيسة بيتا من بيوت الله؟... أو ليس اللّه هو ذاته الذي يؤمن به الإنسان أينما و كيفما كان ؟ أو ليس اللّه إله الجميع مهما إختلفت الشرائع و تنوّعت الطقوس؟ لماذا إذن لا يدخلان إلى الكنيسة ؟...ما الذي قد يمنعهما من ذلك ؟... إلتفتت إليه ، و قبل أن تتكلّم إرتفع صوته قائلا " أعرف جيّدا هذه النظرة الشقيّة التي أراها الآن في عينيك... أتودّين دخول الكنيسة ؟ ألم تسبق لك زيارتها ؟ "...

إنّ هو... " تيم " الذي إعتاد فكّ رموز عينيها و قراءة لغتها دون أي عوائق... إنّه " تيم " حبيبها...ضحكت ملئ شدقيها و أجابت عن سؤاله " لم أزرها من قبل... حتى أنّني لم أفكّر في الأمر قبل اليوم..." أمسك يدها دون مقدّمات...جذبها إلى الناحية الأخرى ، حيث توجد الكنيسة ، دون سابق إنذار...كانت تمشي وراءه و هي تنظر إليه و كأنّها تراه للمرّة الأولى....عادت بها الذاكرة إلى لقائهما الأوّل... لقد كانا يدرسان في نفس الجامعة و لكنّهما إنتسبا إلى كليّتين مختلفين...فقد كانت تدرس علم الإجتماع في حين إختصّ هوّ في العلوم السياسية... لقد كانت تلمحه من بعيد و تشعر  بإنشداد غريب إليه...ربّما لأنّه كان الوحيد الذي شدّ إنتباهها و إستفزّها حضوره المميّز ... لقد جعلتها شخصيّته الوقورة الغامضة تنجذب إليه إنجذابا عجيبا... كانت تراه يدافع عن كلّ طالب يتعرّض إلى مظلمة...كانت تسمع إسمه يتردّد بطيب الذكر و أحيانا بالغزل في كلّ المجالس الطلابية...كانت تلحظ إنبهار الفتيات بوسامته و رجولته و مواقفه الشجاعة...لكن المريب في الأمر أنّها كانت تشعر أنّه يخصّها كلّما سمعت حديثا يدور حوله أو لمحته مارّا في إحدى ممرّات الجامعة...إستمّر الأمر كما هوّ إلى أن قدّر لهما أن يلتقيا وحها لوجه في حفل للموسيقى الملتزمة... لقد كان هوّ المسؤول عن تنظيم الحفل بمعيّة " أسعد " الذي كان حينها حبيب صديقتها المقرّبة " هند "...

كان اللّقاء الأوّل بمثابة لمحة سحريّة ، بالنسبة لها ، حول عالم إسمه " تيم "... ذاك العالم الذي لطالما تخيّلت نفسها تسبر أغواره... لقد كان اللقاء الأوّل و لكنّه لم يكن الأخير...لقد تحوّل ذاك اللّقاء إلى صداقة حملت في طيّاتها حبّا مجنونا... و ها أنّ القدر يمنح هذا الحب فرصة ثانية... أعادها وقع خطاهما و هما يصعدان درج الكنيسة إلى اللحظة الراهنة .... كان يمسك بيدها و كأنّه يخاف إنفلاتها ، كما الزئبق ، من بين يديه و ضياعها عنه من جديد...

لقد كان ، و مازال ، يهواها و يحبّ إحتواءها و يعشق نظراتها التي تشعره بأنّه ملكها... سندها... " بعلها " كما كان يحلو لها أن تسمّيه...هوّ يحكم قبضته على يدها لأنّه مازال يشعر أنّها تنتمي إليه كما ينتمي إليها... كان يصرّ على إمساك يدها لأنّه لن يسمح لها أن تذهب بعيدا عنه هذه المرّة... سيدعو اللّه أن يجمع بينهما في هذه الحياة كي يمشيا الدرب فيها معا... حسبه أن تكون معه حتى يكون قادرا على مواجهة العالم بأسره... حسبه أن يشعر أنّه يتنفّس و إيّاها نفس الهواء... تحت ذات السماء حتى يكون بخير.... حسبه أن يتأمّل جمال عينيها و رقّة تقاسيم وجهها حتى يدرك أنّ لوجوده معنى و أنّ قلبه لا ينبض عبثا... بل ينبض لها و من أجلها... ببساطة ، حسبه أن تكون حتى يكون... دلفا إلى الكنيسة ووقفا منبهران بجمال الزخرف الذي يزيّن السقف و الجدران...تقدّما مشيا في الممرّ الذي يؤدي إلى المذبح... إنّهما يكتشفان لتوّهما معمارا جديدا يوحي بوجه آخر من أوجه التاريخ الإنساني....

تأمّلت السقف الذي بدى لها منخفظا نوعا ما... تذكرت أنّها قرأت مرّة أنّ السقف في المعمار الكنسي يكون منخفظا لأبعاد روحية تعود إلى رمزية بعض الطقوس...أجالت بصرها في المكان وكأنّها تعرف من قبل...ربّما عرفته من خلال أحداث رواية " أحدب نوتردام " لفيكتور هيغو... توقّف تيم قائلا " أتعلمين أنّ هذه الكنيسة قد شيّدت على أنقاض معبد جوبيتير الغالو-روماني ؟.... أنظري... هذه مجموعة من الأقراص المضغوطة والتي تحكي تاريخ الكنيسة و مميّزاتها المعمارية... فلنستمع إليها فهناك آلات إستماع"... إنتهيا من جولتهما الإستطلاعيّة في الكنيسة و كان ممسكا بيدها بعد..... و لم يكن الأمر يزعجها البتة بل على العكس... لقد كانت في أفضل حالاتها... كانت تشعر بحرارة حبّهما المتدفّقة من جديد تسري ، منتقلة من عروقه إلى عروقها عبر تشابك أصابعهما... و كأنّها على رأس غيمة هائمة في السماء .... أين تتطاير حولها ورود النرجس و ترن ضحكات أطفالهما في أذنيها.... و كأنّها بالحلم يرى النور بعد أن تعسّرت ولادته... ستتمسّك به هذه المرّة و لن تسمح لأيّ منهما أن يخذل الآخر .... تقدّما عبر الممرّ وصولا إلى الباب الخارجي حيث إستقبلهما نهر " السين " بمياهه المترقرقة التي إنصهرت فيها خيوط أشعّة شمس الظهيرة فإزداد المنظر روعة... كانت هناك عدّة رحلات بحريّة تنقل السواح.... إذ يعدّ نهر " السين " أحد أهمّ المعالم السياحيّة لمدينة باريس...تقيم في باريس منذ ما يقارب الأربع سنوات و لكنّها لم تر النهر بالروعة التي تراه عليها الآن... ألا تبدو الأمور مميّزة برفقته ؟... تمنّت أن تملك الجرأة لتطلب منه أن يمتطيا إحدى المراكب التي تمرّ أمامهما...عبر النهر...كي يزروا الضفّة الأخرى...إلتفتت إليه.... همّت بالكلام حين إلتقت عيناهما فأربكتها نظراته و نسيت ما أعدّت العدّة لقوله... كانت تحاول التخلّص من تراهاتها حين فاجأها مشيرا إلى أحد المراكب " ما رأيك في أن نعبر النهر إلى الضفّة الأخرى ؟ ".... رغم سنوات الإنفصال...مازالت روحه تخاطب روحها.... مازال قادرا على قراءة أفكارها بسلاسة.... أجابت بالموافقة ... وضع يده على رأسها و عبث بخصلات شعرها الناعمة كما كان يفعل دائما...كما لو أنّه يداعب طفلته... لطالما أحبّت رفق معاملته لها و كأنّها صغيرته ....

ترجّلا عن المركب و أخذا يتجوّلان في الشوارع و يتأمّلان المكان...كانت تشعر أنّ العالم يخلو إلاّ منهما... و كأنّها لا ترى غيره أو ربّما هي لا تريد أن ترى سواه...راودها هاجس خوف ممّا ينتظرهما بعد هذه السعادة الغامرة التي فتحا حضنهما إليها دون كلمات تدوّن اللحظة أو حتى تستبقها... أخفض نظره فأدرك أنّه لم يزل متمسّكا بأطراف أناملها و كأنّه يخشى أن تتيه عنه في زخم الحياة...إبتسم محدّثا نفسه بأنّها حبّه الأزلي الذي لا يمكن أن تنهيه المسافات و لا الخلافات و لا عزّة النفس و عنادها... ها أنّهما قد وضعا جانبا كلّ ما حدث في الماضي و أطلقا العنان لقلبيهما ليقولا ما يجدر قوله... لاحظت أنّه يحتفظ بالكتاب الذي رأته بين يديه في المقهى، قبل أن يغادرا... خاطبته متسائلة " ما سرّ هذا الكتاب الذي تحمله بين يديك ؟ " ...مدّت يدها كي تأخذ الكتاب منه فمنعها بحركة دفاعيّة مضحكة قائلا " لا تحلمي بأن تريه الآن...أتركي الأمور تأخذ وقتها و مكانها الصائبين أيّتها المشاغبة "... إرتفعت ضحكاتها الطفولية التي نسي سمعها وقعها عليه منذ إبتعدت عنه و قالت " حسنا يا صاحب الظلّ الطويل...لكنّي أعدك أنّي لن أتوّقف عن المحاولة...لن يهنأ لي بال قبل أن أعرف قصّة هذا الكتاب العجيب..." جذبها إلى الأمام و قال " ما رأيك أن نتناول شيئا، لقد مشينا كثيرا و بدأت معدتي تدقّ نواقيس الخطر..." وجدت نفسها تمشي معه، جنبا إلى جنب...كما كانا في السابق...هاهما يتشاركان مجدّدا تفاصيل الحياة الممتعة....وصلا إلى أحد المطاعم المطلّة على النهر و إتّخذا لنفسيهما طاولة منزوية... و كأنّهما يتحاشيان حشود النّاس و يودّان الإنفراد ببعضهما البعض...تناول قائمة الطعام و ناولها إيّاها " أنا اليوم أمنحك شرف إختيار طعامي آنستي "... أخذت القائمة منه و أحنت رأسها في حركة إجلال و إحترام و ردّت على أسلوبه الكوميدي بالمثل " لي الشرف سيدي الملك، ما رأيك في تناول حساء البصل مع طبق من السمك المشوي و سلطة طازجة؟ "... تعالت أصوات ضحكاتهما التي كانت كفيلة بالحديث عن السعادة التي تلفّ لقاءهما هذا... إنتهيا من تناول الطعام بعد أن إسترجعا ذكريات الجامعة و المغامرات و الأصدقاء... طلبا شايا أخضر بالنعناع و الليمون...كانت تترشّف كأسها حين مدّ يده ، بالكتاب الذي سعى جاهدا لإخفائه عنها... وضعه أمامها و قال " هذه الرواية تحمل إسم  - فلتغفري – إرتأيت أنّ إهداءك إيّاها سيكون أبلغ من كلّ الإعتذارت و من كلّ طلبات السماح... لين...أنظري إلى حالنا معا...هل بوسعك أن تنكري أنّك تكونين سعيدة برفقتي؟...لماذا لا ننسى كلّ ما حدث و نبدأ من جديد ؟ فلنكفّ عن تقريع بعضنا البعض و تحميل كلّ من الآخر وزر الفراق...ربّما أخطأ كلانا... و لكن أنظري...لقد منحنا القدر فرصة أخرى لنكون معا فلماذا نهدرها و من أجل من ؟...لن أطيل الشرح...هذا كلّ ما يسعني قوله..." كانت تتصفّح الكتاب بينما تنخر كلماته رأسها و تنفذ إلى أعماق روحها...راودتها رغبة في أن تنهض و تحتضنه بكلّ ما أوتيت من قوّة....ضاعت منها الكلمات فإكتفت بوضع الرواية في حقيبتها... إبتسمت و قالت " هيّا بنا...مازالت هناك أماكن أخرى علينا زيارتها..."...هو يتفهّم إرتباكها و ضبابية موقفها فهوّ يعرف تفاصيل شخصيّتها و طريقة تعاملها الأمور... يدرك أنّها مازالت تحاول أن تستوعب ما قال قلبه من كلام....تركا المطعم وواصلا طريقهما...إستوقفهما محلّ لبيع الهدايا التذكارية و التحف التي تعود إلى تاريخ المنطقة السياحيّة...أشارت إليه بأنّها تودّ الدخول...سبقته و لحق بها...كان المحلّ مزدحما فضاعت عنه بين صفوف الزبائن...كان يجول ببصره هنا و هناك حين باغتته يد غريبة تنقر كتفه طالبة منه أن يلفت...تفاجأ بفتاة تتكلّم لكنة فرنسية جنوبية...قدّمت نفسها على أنّها بائعة تعمل في هذا المحلّ...كانت علامات الإستغراب تغزو ملامحه و هوّ يستمع إليها إلى أنّ ناولته صندوقا خشبيا بنيّ اللّون يحوي قطع دومينو و معه رسالة...ثم إلتفتت وراءها مشيرة بإصبعها إلى لين و قالت " هذه الهديّة أرسلتها لك الآنسة التي تقف قرب النافذة"...هاهي هناك... تقف بألق زهرة اللوتس و جمالها العربي المبهر...إبتسم و فتح الرسالة التي كان نصّها كالآني " تبدو قطع الدومينو مبعثرة...هنا و هناك... بالضبط مثلما تكون حياتي دونك و مثلما تكون أنت حين تكون بعيدا عنيّ...فلنرتّب قطع الدومينو معا... فلنعد ترتيب حياتنا معا...حبيبي..." كان بوسعه أن يسمع دقات قلبه من فرط تسارع نبضه...شعر بحرارة تكسو خدّه و إذ بها دمعة تغادر مقلته دون إستئذان... أجل هوّ يبكي... من فرط السعادة ربّما... من فرط الحب...رفع نظره نحوها فرآها تقف و هي تبسم تلك الإبتسامة التي تضجّ أنوثة...تلك الإبتسامة التي تهزّ كيانه هزّا... تقدّمت نحوه بكلّ ثبات... هاهي أمامه...لم تجد الكلمات طريقها إليها فإتّخذ سبيلا آخر للتعبير عمّا يخالجه من عبق العشق... إقترب منها و إحتضنها...وضعت رأسها على صدره و لفّت كتفيه بيديها و هي تشعر و كأنّها تغادر هذا العالم نحو عالمهما الخاص... وكأنّ حبّها له و هيامه بها يعلو بهما فوق دائرة الزمن و التاريخ... هذا ما كانا يحتاجانه... أن يكونا معا و لن يطلبا المزيد.....




منال عبد الوهاب الأخضر
لعنة الحب الأول #19