Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #12

anxiete-amourManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر
لاح فجر يوم جديد لن يكون كبقيّة أيّامها... فأمّها هنا... تزيّن البيت و تعطّره... إتّسعت ضحكتها فقد تسلّلت إلى مسامعها أنغام فيروز " سيّدة الصباح "... هذه عادة من عادات أمّها الحميدة... عادة تلغلغت في تفاصيل حياتهم اليومية... ففي منزل عائلتها لا يكون الصباح صباحا إذا لم يصدح مذياع أمّها بصوت فيروز و تزيّن صحيفة والدها طاولة الفطور و يمتلئ المكان بزقزقة عصفور أخيها و تداعب هدوءهم شقاوة أختها....

كلّ هذا لا يكتمل إلاّ برائحة القهوة... قهوة أمّها المميّزة المطعّمة بنكهة البرتقال المجفّف و الهيل الشامي... إنّها  الرائحة التي شبّت عليها... بدأت رائحة قهوة أمّها تدغدغ أنفها...كلّ شيء في حضور أمّها إستثنائي... رفعت يديها إلى السماء و دعت ربّها " ربّي إنّ أمّي نعمة فاحفظها لي من الزوال..." نفضت عنها غبار الكسل قاطعة حبل الودّ مع فراشها الذي يشدّها إليه شدّا ووسادتها التي تغريها بمواصلة النوم...


كيف لها أن تنام و نفحات هذا الصباح تنبؤها بأنّ يومها لن يكون عاديّا؟... تركت الغرفة متّجهة نحو المطبخ فوجدت أمّها و هيّ تعدّ لها فطور الصباح بلمسات أناملها الحنونة التي تجعل كلّ ما تلمسه محبّبا و قريبا إلى القلب... ستكون أبيقوريّة هذا الصباح و ستستمتع، حدّ النخاع ، بما منحتها إيّاه الحياة... تكفيها متعة مشاركة أمّها قهوة الصباح....متعة لا تضاهيها متعة...تبادلتا تحيّة الصباح و قصدتا الشرفة...إنتهت من طقوس ترشّف القهوة التي تغسل في قطراتها السوداء كآبتها و عليها الآن أن تستعدّ كي تقصد عملها... صوت خفي بداخلها يذكّرها بأنّ هذا اليوم لطالما كان مميّزا بالنسبة لها...ربّما يحمل تاريخ اليوم ذكرى خاصّة تغيب عن ذاكرتها الآن...يا إلاهي...ها أنّ الوقت يداهمها مرّة أخرى و عليها أن تسرع....دلفت إلى الغرفة و فتحت الخزانة كي تختار ما سترتديه...أجالت بصرها بين رفوفها و أدراجها فأدركت أنّها لا تملك سوى ملابس داكنة اللون...سوداء،بنيّة أو رماديّة و في أفضل الأحوال زرقاء اللون...ربّما إستعدّت لخيبات الأمل التي يحتفظ لها بها القدر بمثل هذه الملابس...إستقرّ نظرها على فستان أسود ذا ياقة دائرية يصل طوله إلى الركبتين ، يزيّن خصره حزام جلدي تتوسّطه فراشة فضيّة... كان هذا الفستان هديّة أختها في عيد ميلادها و لكن الفرصة لم تسنح لها بإرتدائه قبل اليوم...وضعت آخر لمسات طلّتها بقرطين بسيطي التصميم...تناولت حقيبة يدها و حاسوبها المحمول و إستعدّت للخروج...فتحت باب غرفتها فواجهتها ملامح أمّها المتفاجئة...إبتسمت إبتسامة محتشمة و كأنّها تنكر على أمّها إندهاشها من طلّتها الأنثوية...أغدقتها الوالدة الحنون بحضن عميق و دافئ...فردّت عليه بقبلة إمتنان طبعتها بلهفة على جبينها النديّ...واصلت طريقها نحو الباب الخارجي ترافقها دعوات أمّها بالتوفيق....إلتفتت وراءها و خاطبت عيون أمّها القلقة " قد جاوزت العشرين يا أمّي... فإتركي الهمّ و إرتاحي..."

ركبت المترو قاصدة عملها دون أن يغادرها ذاك الشعور بأنّ هذا اليوم يعني شيئا بالنسبة لها...سقطت خصلة من شعرها على عينيها...أزالتها بسرعة ممّا أتاح لنظرها أن يقع على الساعة الرقميّة التي تتوسّط مقاعد المترو...هذه الساعة التي تشير إلى تاريخ اليوم و ساعة إنطلاق المترو من المحطّة و ساعة الوصول المفترضة...اليوم هو الثامن و العشرون من تشرين الثاني...إنّها ذكرى مولده...لذلك إذن كانت تشعر بأنّ هذا اليوم يحمل ذكرى مميّزة بالنسبة لها...لكن ما خطبها ؟ لماذا أصابها كلّ هذا الإرتياك؟ ذكرى مولده لا يجب أن تعنيها...فهوّ لم يعد جزءا من حياتها...لماذا إذن يعتصر الألم قلبها و تكاد مقلتاها تنفجران دمعا ؟ ...تراجعت برأسها إلى الوراء و أغمضت عينيها ربمّا تكفّ عنهما الدمع فداهمتها الذكريات من كلّ حدب و صوب...عادت بها الذاكرة إلى أوّل مرّة إحتفلا فيها معا بذكرى مولده...كانت حينها مقبلة على الحياة...تسبر أغوارها معه، يسيران في دربها جنبا إلى جنب...يستمعان إلى الموسيقى ذاتها، يقرءان نفس الكتب...يتشاركان كلّ مباهج الحياة و يتقاسمان ضغطها و أحزانها و يتحمّلان معا ظلمها... في ذلك الآن...إحتارت " أي الهدايا ستهديه؟ بل أيّ الهدايا تليق به و ترمز لحبّها السرمدي له؟ ".... تذكر جيّدا أنّها بعد حيرتها إختارت أن تهديه كتابا تشاركاه ذات أمسية في المكتبة الوطنية... كانت هديّتها رواية للأديب السوري حنّا مينا تحمل عنوان " الثلج يأتي من النافذة"...لقد إختارت له هذه الرواية بالذات لأسباب عدّة...أوّلها أنّ هذا الكتاب هوّ المؤلّف الأوّل الذي تشاركا قراءته و مناقشة معانيه...و ثانيها أنّ حبيبها كان دوما يردّد إحدى العبارات التي ساقها حنّا مينا على لسان بطل روايته " فيّاض " ... " فيّاض " ذلك الرجل الذي أضحى رمادا بسبب هروبه المتواصل من مصيره المحتوم...لكن حب " عروس الثلج " التي كان يلمح خيالها عبر زجاج النافذة قد بعثه حيّا من جديد...

كان " تيم " يردّد دوما ما قاله حنّا مينا على لسان بطله " غنّ يا رفيقي، غنّ من أجل الذين هناك...غنّ... و الذين هناك يغنون و الدرب طويل...أيها السائرون عليه، إرفعوا رؤوسكم، غنّوا رغم السياط، غنّوا رغم السلاسل غنّوا و لا تخافوا الحياة...الحياة تقتل من يخافها..." كان يردّد هذه الكلمات المفعمة بالألم و الأمل على مسامع رفاق القضيّة أيّام الجمر...حين كان الأمن الجامعي يستهدف تجمّعاتهم حتّى و إن كانت خالية من أيّ بعد سياسي...نزلت من عينيها دمعة حارّة وصل مداها إلى أسفل رقبتها...فسارعت إلى مسحها و إعتدلت في جلستها... و كأنّها تؤنّب قلبها المغفّل أنّ كفّ عن إيذاء نفسك...سيلان الماضي قد باغتها و من الصعب جدّا أن توقفه الآن و خاصّة في مثل هذا اليوم...تذكّرت أنّها قد أرفقت هديّتها ببعض الكلمات التي خطّتها بروحها على مقدّمة الكتاب...كتبت ما باح به فؤادها من مشاعر فكان " شكرا...شكرا لأنّك جعلتني بالأنوثة أختال...شكرا لأنّك قلت للجبن في نفسي محال و جعلت الحب في قلبي حلال... شكرا حبيبي لأنّك حبيبي..." إذا حدث و نسيت كلّ شيء لا يمكن أن تنسى لمعة السعادة التي لمحتها في عينيه حين قرأ تلك الكلمات...إذا حدث و نسيت كلّ شيء لن تنسى ذاك العناق المدمّر الذي أهداها إيّاه بعد أن نفذت كلماتها إلى روحه...لقد عانقها عناقا سخيّا أشبه بعناق الأمّ لوليدها حديث العهد بالحياة...اللّعنة عليه و عليها على هذا الحب الذي سكن خلاياها كما يسكن داء السرطان خلايا الجسد فينهكه و يسلبه مناعته.... أنقذها ذلك الصوت المسجّل الذي يبث لتذكير الركّاب بالمحطّة التي وصل إليها المترو...عادت بجهد جهيد من رحلتها الشاقة عبر موجات الماضي التي ما فتئت تعافرها بوجع يكاد يشق صدرها عن قلبها الذي يريد أن يصرخ أنّه ما عاد قادرا على الصمود أكثر في مواجهة لعنة الحب الأوّل... وصل المترو إلى المرجوّة فلملمت دمعها و أخفت آهاتها و تركت المقعد...رمقته بحقد و كأنّه كرسي في غرفة تعذيب...

بدأت حركة المترو تتباطئ إلى أن توقّف فسارعت إلى النزول كأنّها أسير محرّر...انتهت من إلقاء محاضرتها الصباحية و بالكاد تبادلت أطراف الحديث مع زملائها ثم تركت حرم الجامعة عائدة إلى المنزل كيف تدفن رأسها في حضن أمّها و تخبّئ خيبتها المتجدّدة بين جدران بيتها... ما كادت تصل إلى المنزل حتّى تلقّت إتّصالا من زوج صديقتها يخبرها بأنّها في المستشفى و أنّها قد وضعت طفلها الأوّل و أنّه يحتاجها كي تتدبّر معه بعض الأمور التي يعجز عن حلّها بنفسه...يا إلاهي... لقد نسيت تماما أنّ صديقتها " هند " على وشك الولادة...لقد تخاذلت و لم تلتزم بعهد الصداقة...حين سافرت إلى باريس كانت "هند " قد سبقتها رفقة زوجها " أسعد "...لقد ساعداها كثيرا...إستضافاها لفترة في منزلهما و ساعداها في العثور على المنزل الذي تقيم فيه الآن...حتى أنّهما شاركاها إختيار الأثاث و ألوان ورق الجدران و حتّى في تزويق الحديقة....لم يحنثا أبدا بعهد الصداقة التي جمعتها بهما منذ الدراسة الثانويّة و التي إستمرّت خلال الفترة الجامعيّة و لازالت قائمة إلى اليوم...حتّى أنّ " أسعد " هوّ أحد الأصدقاء المقرّبين من " تيم "...لكنّها تجهل إذا ما كانا على تواصل بعد أم أنّهما لم يعودا كذلك...كلّ هذا لا يهمّ الآن فمن المؤكّد أنّه يتقاسم اليوم ذكرى مولده مع إمرأة أخرى...في مكان ما من العالم...كلّ ما يشغلها الآن هو أن تصل في سرعة البرق إلى المستشفى حتى تعوّض عن تقصيرها مع صديقيها...غيّرت ملابسها في عجلة و إتّصلت بمكتب لسيّارات الأجرة...وصلت إلى المستشفى و توجّهت مباشرة إلى مكاتب الإستقبال تسأل عن جناح الولادة و ما إن دلوّها عليه حتى إنطلقت تبحث عن غرفة صديقتها...كانت تائهة في أروقة المستشفى حين أطلّ " أسعد " و البسمة تعلو محيّاه...يحقّ له أن يبتسم فقد أصبح أبا...

فتحت ذراعيه و هوّ مقبل نحوها يطلب عناق تهنئة " لقد أقبل إبني أخيرا يا صديقتي ...أقبل بطلي الذي إنتظرته سنوات عديدة..." قال هذه الكلمات بنبرة تحمل سعادة الكون بأسره...بادلته السعادة قائلة " أخيرا أقبل ذلك الشقي و أصبح لدينا أمير مدلّل يؤثث أيّام حياتنا المملّة...أين هيّ صديقتي ؟ " دلّها " أسعد " على الغرفة و قال أنّه سيلحق بها بعد برهة....دقّت الباب بهدوء و دخلت لتجد الصغير في مهده الموجود قرب سرير الأمّ...لقد كانت هند مغمضة العينين في حين كان الصغير مستيقظا...إقتربت منه و لامست أصابعه الصغيرة فسرت قشعريرة لذيذة في جسدها...يا له من شعور مبهج أن تولد الحياة من رحم الإنسان....يا لها من علاقة قدسيّة... علاقة الأمّ بإبنها... لأوّل مرّة في حياتها تعي رغبتها الملحّة في أن تكون أمّا... تحتاج أن تعيش هذا الرابط المقدس...قبّلت يديه الصغيرتين و إلتفتت لترى صديقتها... قبّلت وجنتيها فإستفاقت من نومها مبتسمة و قالت " لين أنت هنا؟ أرأيت صغيري؟ أرأيت قمري؟.." مرّرت باطن يديها على رأس صديقتها  مجيبة " أجل... رأيته عزيزتي.. إنّه رائع...عسى أن تكوني له خير أمّ و أن يكون لك إبنا بارّا... " تعانقت الصديقتان بحرارة... "لكن، أليس لهذا الصغير إسم بعد؟ " تساءلت لين و أوشكت هند أن تجيبها لكن صوتا آخر إرتفع ليجيب محلّها... " إسمه شيذم... أنا من إخترت له هذا الإسم.." يا إلاهي، أليس هذا صوته؟ ماذا يفعل هنا؟ ألم يرحل؟ كيف ستواجه هذا الموقف؟....
* * *

conversation-exإختار للصغير إسم "شيذم" !! هذا الإسم الذي إتفقا أن يمنحاه لإبنهما الأول إذا ولد ذكرا!! ما المغزى من هذه الحركة الهجومية الغير متوقّعة؟ هل يريد أن يؤكّد لها أنّه ماضٍ في حياته و أنّه نجح في التخلّص من شبح الماضي؟ حلّ صمت صاخب على المكان قبل أن تقطعه الممرّضة التي جاءت لتصحب الطفل لإجراء بعض التحاليل الروتينية إطمئنانا على صحته.. أخذت الممرضة الصغير و خرجت فقرّرت أن تنتهز الفرصة للخروج لأنّ الكمّ الهائل من التوتر الذي يسيطر على الجو يكاد يخنقها أو ربّما خنقها و إنتهى الأمر... ما هذع اللّعبة التي تمارسها عليها الحياة؟ لماذا يظهر نن جديد بعد أن خالت أنّ الصفحة الأخيرة من قصتهما قد خطّت حين أوصاها أن تعتني بنفسها و مضى في طريقه دون حتى أن يلتفت وراءه... لماذا تلاحقها لعنته؟..

إنحنت تهمس في أذن صديقتها أنّها ستحضر شرابا ساخنا يساعدها على طرد الصداع الذي يلازمها... أخذت حقيبتها و خرجت قاصدة مقصف المستشفى...  إختارت كوبا من الشوكولا الساخنة فهي تحب ترشفها في مثل هذا الطقس....  هذا الطقس الذي يشبهها...  طقس خريفي يحاول التشبّه بالشتاء عبثا... هي كذلك تحاول أن تظهر بمظهر المرأة القوية التي لا تهتزّ أمام محن الحياة و ألاعيب الظروف،  لكن... هباء...

إتخذت لنفسها مكانا في حديقة المستشفى و هي تترشف الشوكولا باحثة في دفئ قطراتها عن دفئ يشمل صقيع روحها و ينهيه...  ماكادت تجلس حتى حطّ بقامته الفارعة الطول بجانبها... ها قد لحق بها ليستكمل حربه التي لم تدرك لها بداية و تجهل متى سوف يتكرّم و ينهيها... سيكون سلاحها في مواجهته اللاّمبالات.... لن تبالي به و ستتجاهل وجوده و لن تخضع لإستفزازاته التي لا تحتمل... أحكمت قبضتها على كوب الشوكولا الساخنة و كأنّها تطلب منه المساندة... أغمضت عينيها في حركة تأمليّة تستدر القوّة من أعماق نفسها... لكن صوت قدّاحته و هي " تقبّل"  السيجارة أيقظها من تأملاتها و أعادها كي تعقل الموقف الذي عليها أن تعيه و تتصرّف بحكمة في شأنه...

بدت رائحة سيجارته تعمّ المكان كما يعمّ الإرتباك كلّ جزء من كيانها... يثير هذا الصمت جنونها فقرّرت المغادرة دون أن تتكلّم... فهذا أفضل في كلّ الأحوال... كادت تترك المقعد حتى إستوقفها قائلا " ما رأيك في الإسم الذي إخترته للوليد الجديد؟  هل تذكرين معناه أم أنّك حفرت لذكراه قبرا بحانب قبور بقية ذكرياتنا معا؟!"  يا له من خطيب فذّ... فتّاك...  يتقن التلاعب بالكلمات و المعاني و حتى بالذكريات...  فقط لكي ينجح في أذيتها... لكنّها لن تسمح له بأن يستفزّها...  بل ربّما عليها هي أن تفعل ذلك... عليها أن تدافع عن نفسها بأن تهاجمه... رفعت رأسها في شموخ شبيه بشموخ زنوبيا... تلك المرأة التي كانت،  في نظرها،  " أيقونة ساحرة" ... ففي طفولتها كانت تمضي ساعات و هي تجلس على كرسي والدها الهزاز و هي تقول بأعلى صوتها " أنا زنوبيا ملكة تدمر..."  عادت إلى ذكريات الطفولة تستمدّ منها القوّة و الجرأة لمواجهته بل لتحديه... نظرت إليه و أطلقت ضحكة ساخرة ثم قالت " ربّما نسيت الإسم...  ربّما لم يعد يعنيني في شيء...  و لكنّي على الأقل لم أمنحه لطفل غيري و كأنّه غرض يمكن إعارته للآخرين... أنا على الأقل،  و إن نسيت،  لا أشوّه الذكرى و لا أسلبها معناها و رمزيتها..."

أخذ نفثة عميقة من سيجارته و قال مباغتا إيّاها بما لم تنتظر منه أبدا أن يقوله " يبدو أنّي فعلت صالحا حين منحت الإسم لطفل شخصين آخرين و ذلك لعدّة أسباب أهمّها أنّه لا وجود لطفل يجمعنا و لن يوجد... كما أنّ هذا الإسم قد فقد معناه...  فأنت ما عدت أبدا تشبهين شذى الورد الرقيق الناعم...  ما عدت معنى إسمك يا لين... ما عدت كما عهدتك...  لقد تغيّرت كثيرا... و لكنّك على الأقل تعيشين الحياة التي كنت دوما تطمحين إليها... "

تتألّم بل تجنّ ألما لأنّ رؤيته تعيدها،  في كلّ مرّة،  إلى ماض محبّب إليها... ذاك الماضي الذي كانت فيه فتاة حالمة...  ترى الدنيا في عيون حبيبها و ترنو إلى أن تكون معه إلى ما لا نهاية...رؤيته تؤجّج شوقها إلى الزمن الذي كانت تجهل فيه أنّ الفراق يختبئ في زوايا الحكاية منتظرا الوقت المناسب ليفترس حبّها... بدأت الذكريات تعود إلها و هي تنتظر المصعد... ها قد توقّف قطار الذكريات في محطّة ذاك اليوم الذي كانا فيه على الشاطئ يراقبان حركة صغار سرطان البحر البطيئة و هي تزحف باحثة لنفسها عن موطن بين الطحالب و الرمال...  تذكّرت أنّها إنبهرت بذلك المشهد كما ينبهر الطفل برؤية إنعكاس صورته على المرآة للمرّة الأولى... و تذكر أيضا أنّه ضحك من إنبهارها الساذج بذاك المشهد و شبّه تصرّفها الطفولي،  في رقّته،  برقّة شذى الورد و نقاءها بنقاء الشذى الطيّبة... وجدت نفسها تبتسم رغما عنها لحلاوة تلك الأيام...  تلك الأيام التي كانت تشعر فيها بالأمان لأنّ لديها ثلاث قلاع متينة يمكنها الإحتماء بها متى داهمها الخطر... فوالدها أوّل تلك القلاع و أكثرها صلابة... شقيقها كان ثاني تلك القلاع و أشدّهت حنوّا عليها...  أمّا هوّ... حبيبها فكان آخر تلك القلاع... لقد كان قوّي الحشور يشعرها بأنّها في مأمن معه من كلّ شرور العالم و شوائبه....  لقد كانت تسميّه بالأيهم... فشموخه و عزّة نفسه تشبه شموخ و رفعة الشديد من الجبال... لطالما كان في نظرها صامدا،  قويّ الإرادة التي لا تقهر... و لأنّ إبنهما كان ليجمع،  إذا قدّر له أن يولد،  بين رقّة الشذى و شموخ الأيهم إختارا أن يسميّاه " شيذم"  و لكن... لا يمكن لرقّة الشذى أن تلامس الأيهم صعب المرتقى دون أن تتأذّى...  لذلك كان الإنفصال مصير علاقتهما و ما وُلِد " شيذم"  فقرّر هوّ بفراصته و فصاحة فكره المعهودة،  أن يمنح الإسم لإبن هند و أسعد فقط لكي يؤذيها...  بيد أنّه لا يدرك حجم الأذيّة التي قد يتلقاها منها إذا واصل في مهاجمتها... فهي لم تعد رقيقة كالشذى بل أصبحت شرسة كاللبؤة الجريحة و لن تسمح،  لا له و لا لغيره،  بأذيّتها مهما كلّفها الأمر...  فُتِح باب المصعد أمامها فدلفت إليه و هيّ تشعر أن حملا ثقيلا قد أُزِيح عن كاهلها بعد أن أعادت إعتبارها و ثأرت لنفسها منه و نجحت أخيرا في مواجهته و مواجهة مخاوفها معه....



منال عبد الوهاب الأخضر


 لعنة الحب الأول #12