Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #11

conseils-mereManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر

حاولت،  دون جدوى،  أن تسترضي أمّها... كادت توسّلاتها أن تثير شفقة جماد الباب المقفل الكائن بينهما... لكن... هباء... فأمّها إمرأة صلبة... قويّة... لا تتراجع بسهولة عن مواقفها... و هي تدرك جيّدا ما تفعل...  لقد قرّرت أن تعاقبها لأنّها قالت ما لم يرق لها...

تمكّن منها اليأس فتركت باب الغرفة و إستسلمت للتعب الذي ترغب في التخلّص منه... سارعت إلى سريرها و ألقت بذهولها،  تعبها و شجنها على وسادتها... هذه الوسادة التي تتجاوز بعدها المادّي...  فوسادتها ليست مجرّد شيء من أشياء هذه الغرفة... هذه الوسادة هي رفيقة درب،  أنيس وحدة،  مجفّف دمعة... هذه الوسادة هي الشاهد المتجدّد على تأوّهاتها و نوبات جنونها...

ستلجأ إليها الليلة، ككلّ ليلة،  ستحكي لها عن الكم الهائل من القلق الذي يساورها... ستبوح لها بما يشغل بالها... وضعت رأسها على الوسادة و حاولت أن تنام... لكن النوم قرّر أن يقاطعها في هذه الليلة العصيبة... أجل هذه الليلة عصيبة لأنّ أمّها غاضبة منها و هذا ما لا تقوى عليه...  هجرها النوم رغم أنّها مرهقة جدّا...  أخذت تعبث بضوء الأباجورة...  تلك الأباجورة التي تجانب سريرها و تؤنس روحها في ظلمة ليالي الغربة و الإغتراب و قتامة سواد الوحدة... نظرت في أنحاء الغرفة متأمّلة أغراضها...  زواياها و حتى ستائرها لتدرك عمق علاقتها بالمكان و الأشياء...  هذه الغرفة هيّ مملكتها الصغيرة... تتصارع فيها مع أفكارها الغريبة يتجاذبها الأمل و الألم... تبكي و تضحك...  ترقص...  تعلن جنونها العاقل...  تتمرّد على واقعها و تنشئ لنفسها عالما بديلا...  هنا...  في هذه الغرفة يتأرجح وجودها بين حدّي الجبن و الشجاعة... الجبن الذي يمنعها من التنصّل من الرابط الموجود بينها و بين المكان...  و الشجاعة التي تتيح لها فرصة تحويل المكان إلى وطن يليق بها...  إبتسمت حبّا و حنقا من هذه العادة التي تلتصق بها كتوأم لروحها...  عادة محادثتها لذاتها... عادت إلى وسادتها تطلب عونها كي تنام... أمسكتها بشدّة رقيقة...  شدّة تعكس حاجتها الملحّة للنوم،  ليس فقط لأنّ جسدها منهك...  بل أيضا لأنّها توّد أن تهرب من زخم أحداث اليوم و صخبها... 

بدأ النعس يحطّ على رموشها فأغمضت عينيها و خلدت إلى النوم.... فجأة، بدأ ظلام الغرفة يشتدّ و الثقل يسيطر على كتفيها...  تسارعت دقّات قلبها و تقطّعت أنفاسها...  حاولت أن تستغيث و لكن صوتها كان مكتوما....  إستعانت بذكر الله فبذكره تطمئن القلوب...  بدأ ظلام الغرفة ينقشع و ثقل كتفيها يخفّ و دقّات قلبها تهدأ و أنفاسها تنتظم... فتحت عينيها بصعوبة و إستقامت جالسة بشق الأنفس...  ضمّت ركبتيها إلى صدرها في وجل و خوف... إنّه الكابوس المعتاد... هذا الكابوس الذي أصبح يلازم نومها كملازمة الظلّ لصاحبه...  أرادت أن تصرخ...  أن تبكي... لكنّها كانت خائرة القوى...  عادت تطمئن نفسها... إنّه كابوس...  مجرّد كابوس يمكن أن يراود أي شخص آخر في أي مكان و زمان آخرين... أعادت ترتيب وسادتها و عادت للنوم و هي تستجديه " الرحمة"  دون جدوى...  عادت بها الذاكرة إلى أحد أيام طفولتها...  ذاك اليوم الذي زارت فيه بيت جدّها و قرّرت المبيت في حضن جدّتها... 

تذكر جيّدا أنّها كانت سعيدة جدّا لأنّها ستمضي الليلة في الإستماع إلى حكايات جدّتها الممتعة و المشوّقة و الإستمتاع بما لذّ و طاب ممّا تعدّه من أكلات رائعة المذاق... في تلك الليلة روت لها جدّتها إحدى الخرافات المستقاة من المخيال الشعبي و التي تخلّد حب الأم لأبنائها و تضحياتها من أجلهم فما كان من النوم إلا أن قاطعها،  كما يفعل الآن...  تذكر جيّدا ذاك الشعور البشع الذي سكن قلبها حينها.... لقد شعرت بالخوف على حياة والدتها و لم تتمكّن من النوم فإستيقظت و أيقظت معها كلّ أهل البيت و أمضت ليلتها و هي تبكي مطالبة جدّها و جدّتها بأن يعيداها إلى حضن أمّها...  مرّ ما يزيد عن العشرين سنة على تلك الليلة و لكنّها لازالت تحتاج حضن أمّها بنفس القدر...  بل ربّما أكثر...  لازالت إلى اليوم تخشى فراق أمّها و أكثر ما يخيفها أن تغضب منها " ست الحبايب"...  لم تكن قد إنتهت بعد من إسترجاع ذكريات تلك الليلة حتّى طُرِق باب غرفتها و أطلّت أمّها الحبيبة بوجهها السمح...  البشوش و ملامحها التي تحمل كلّ طيبة و حنان العالم.... جاءت بإبتسامتها الساحرة تطمئن على إبنتها الصغيرة التي لا تكبر أبدا في نظرها...  تقدّمت نحوها و جلست على طرف السرير... 

ضمّتها بقوّة و قالت " لم أتمكّن من النوم و أنا أعلم أنّك كذلك عاحزة عنه... أتيت لأخبرك أنّي لست غاضبة منك يا إبنتي...  كلّ ما في الأمر أنّي قلقة عليك...  أريد أن أطمئن على إبنتي التي لطالما كانت فخري و إعتزازي...  أريد أن أراك سعيدة كما تستحقين يا صغيرتي..."  عانقت أمّها بقلبها و تعبّقت رائحتها العطرة و قبّلت باطن كفّها... رفعت نظرها إليها و قالت " آسفة أمّي...  أرجوك لا تغضبي منّي،  عديني بأنّك لن تتركيني وحيدة... أنا أريدك دوما إلى جانبي تدعمينني حتى أستطيع مواجهة هذه الحياة....  لفّت ذراعيها حول خصر أمّها و تعلّقت بتلابيبها كما يتعلّق الأعمى ببصيص نور ينقذه من الضلال....  إبتسمت ملئ شدقيها... فحضن أمّها هنا...  و حنانها لازال يغمرها...  أغمضت عينيها و خاطبت نفسها " لا داعي للخوف أيّتها البلهاء فأمّك هنا و ما دامت بجانبك سيكون كلّ شيء على ما يرام..."  بدأ النوم يعود إلى جفنيها فأغمضت عينيها شاكرة اللّه على نعمة أمّها و على هذا السلام الداخلي الذي بعثه فيها...

 

 منال عبد الوهاب الأخضر


 لعنة الحب الأول #11