Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

لعنة الحب الأول #15

desespoir-amourManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر

لم تلحظ في كلامه أنّه يحاول أن يخفي الأمر عنها... و لكنّه في المقابل لم يكلّف نفسه عناء إخبارها أنّه متزوّج و أنّه أب لطفل... إحتارت و شُلت ردّة فعلها... هل تدفعه جانبا و تمرّ... تغادر المكان دون حتى أن تلتفت وراءها؟
هل تصفعه علّه يدرك حجم صدمتها أم عليها أن تُحجم عن ردّات الفعل المتوقّعة هذه و أن تتصرّف معه و كأنّ شيئا لم يكن؟ ربّما سيعتقد، إذا ثارت غضبا أنّها ظنّت أنّهما عادا ثنائيا مجددا بعد لقاءتهما المتكررة مؤخرا... ربّما سيكشف النقاب عن ألمها...

لن تفعل ذلك و لن تجعل هذا اللقاء معركة أخيرة يكون هو المنتصر فيها... ماذا يظنّ؟ أنّه قادر على التلاعب بها؟ أيُخيّل لعقله الذكوري المريض أنّه سيحوّلها إلى عشيقة محتفظا في الآن ذاته بزوجته و إبنه؟ سحقا لها... و هي التي خالته مختلفا.... كلّ هذه السنوات كان يخدعها و يقدّم نفسه في صورة مذهلة تخلب الألباب... تداركت أمرها و إبتسمت في وجهه بألق غير متوقّع لا يعكس أبدا إهتزاز روحها من هول الصدمة... فعلا إنّها إمرأة إستثنائية فلم يتوقّع منها ردّة فعل مشابهة... زادت دهشته حين خاطبته قائلة" يا له من طفل جميل... حماه الله... كم يبلغ من العمر الآن؟... " وجم مزبهلا أمام برودة أصابها... أما عاد أمره يعنيها فعلا أم أنّها تدافع عن نفسها بردّة الفعل العكسية هذه؟ لم يطل إنتظارها للإجابة... فسرعان ما رأته ينظر بحنو إلى الصورة و يقول" إنّه إبني باسل و قد أتمّ، منذ شهر، سنته الثانية".... يا له من وغد!! إذا كان سعيدا في حياته فلماذا عاد يلاحقها و يوهمها أنّه مازال في حبّها غارقا؟... عقّبت على كلامه متمنيّة لإبنه مديد العمر و السعادة و دعته إلى إلتقاط الصورة التي كان يريد... فقد حان الوقت كي تعود إلى البيت.... هناك... حيث يوجد حضن أمّها... عاد السكون ليعمّ بينهما... سارعت خطاها مغادرة ساحة البرج... كاد يوقفها و يسألها " هل آلمك أنّ لي إبن؟" لكنّه إفتقر إلى الجرأة بل إلى الوقاحة... وصلا محطّة المترو... أشارت إلى الخارطة الرقمية المثبّتة في حائط المحطّة و قالت " بإمكانك أن تعرف من هذه الخارطة أي مترو تستقل كي تصل إلى وجهتك أما أنا فسأغادر فأمّي فإنتظاري... قطعت هذه المسافة لزيارتي و لم أجد الوقت حتى كي أجالسها... سأتركك الآن... وداعا...." تعمّدت قول " وداعا" لأنّه لا يحبّ الوداع...لم تنتظر حتى أن يردّ عليها أو أن يشكرها فقد مضت في طريقها لا تلوي على شيء... نزلت الدرج و إتجهت إلى الجهة المعاكسة للجهة التي يقف فيها... أو ليس هذا المشهد إنعكاسا لواقع حالهما... قدرهما أن يسلكا سبيلين مختلفين... يتقاطعان دون أن يلتقيا... ما أزعجه أنّها لم تحاول حتى أن تفهم متى و مِن مَن تزوّج؟ و متى أنجب إبنه؟

يبدو أنّها إختارت الفراق نهاية لهما منذ تركته قبل ثلاث سنوات و يبدو أنّ قرارها لن يتغير الآن... جلست في إنتظار المترو الذي سيقلّها للبيت... ما كان عليها أن تسترسل في طوباويتها... ما كان عليها أن تسمح لنفسها بأن تقع فريسة لأهواء قلبها مجدّدا... أكان عليها أن ترتطم بصخرة الواقع حتى تستفيق و تدرك أنّه ماضٍ و سيبقى كذلك؟ خاطبت نفسها " أنظري أيّتها الحمقاء... إنّه هناك... يقف قبالتك على الطرف المقابل من سكّة المترو... و هو كذلك في الحياة... يقف، منذ بعيد الأمد، في الطرف المقابل لطرفها... لا يمكن لدربَيْكما أن يلتقيا... أما آن لك أن تتعلّمي الدرس؟ أما آن لك أن تتركي أنّه لا يمكنك معاندة القدر؟... " كان يرمقها بنظرة مبهمة تتداخل فيها الحسرة مع الحب... مع الغضب... مع نشوة الإنتقام.... أجل.... نشوة الإنتقام.... أليست هي من تركته؟ لماذا إذن تُعيب عليه أن يكمل حياته بعيدا عنها... مع إمرأة أخرى... ؟

كانت تحاول أن تشيح نظرها بعيدا عنه دون أن تتمكّن من ذلك... تودّ أن تنسى ما حدث... أن تنسى أنّها إلتقته مجدّدا و أنّه هنا.... يقف قبالتها... كادت دمعة متمرّدة أن تنزلق هاربة من مقلة عينها فألجمتها بإبهامها و سبّابتها و منعتها من رؤية النور... لن تبكي بسببه... سوف تُضمّد جرحها داخلها و لن تجعله يضفر برؤيتها دامعة... عدّلت ياقة سترتها في حركة مرتبكة تخفي توترها و حاجتها الملحّة للإختباء... ليس فقط منه و إنّما من نفسها أيضا... أخيرا وصل المترو الذي تنتظره... وقفت مستعدّة للصعود و قبل أن تدلف إلى الداخل، ألقت نظرة على الجهة المقابلة فلم تجده... إلى تراه ذهب؟... عاد محرّك المترو للعمل فوجدت نفسها مجبرة على الصعود... إندفعت وسط الركاب تبحث لنفسها عن مكان فأدركت بصعوبة كرسيا شاغرا بجانب النافذة و ما إن جلست حتى تفاجأت به واقفا أمامها.... لقد لحق بها إذن.... ماذا يريد؟ ألم يكفيه ما آل إليه الأمر؟ كانت في حاجة إلى شراب مثلّج يوقظها من وجومها و لكنّه تكفّل بذلك حين واجهها قائلا " علينا أن نتحدّث... لن أسمح لك بالهرب مجدّدا".....



ماذا عساها تفعل؟ أيُمكن أن تحدث معجزة و تقفز من سقف المترو و تهرب منه و من عينيه اللّتان تقف عاجزة أمامهما... جلس قبالتها في حزم... يبدو مصرّا على مواصلة هذه المهزلة... ماذا سوف يقول؟ بماذا سوف يُخبرها؟!!... سيقصّ على مسامعها قصّة غرامه الجديد التي أثمرت طفلا؟!... تخيّلت نفسها تصرخ في وجهه و توسعه ضربا... تمنّت لو يتحوّل الخيال حقيقة.... و لكنّها لن تفعل ذلك حتى و إن أتيحت لها الفرصة... فهي أقوى من أن تُشعره بأهميّته بردّة فعل كهذه... بدى الوقت يمرّ حثيثا و كأنّه حليفه في التفنّن في تعذيب روحها السقيمة... لن تخشى الألم و ستواجه الموقف كما يواجه الصقر موته بكلّ عنفوان و كبرياء... لن تنكسر أمام سخرية القدر و لن تجعله يرديها قتيلة في معركة لا تملك فيها أسلحة سوى نظرة عينيها الحادّة و عزّة نفسها التي لا تُقهر... في المقعد المقابل لها كان يقبع مهموم الفكر... يراجع شريط الأحداث... عادت به الذاكرة إلى ذلك اليوم الذي تركته فيه... جريحا... منهزما... لا بل مغدورا... ذاك اليوم الذي ظنّه كابوسا مآله النهاية و لكنّه لم يكن كذلك... عاد إلى أيام و ليالٍ من الأرق... أيام لم يعقل تواريخها... و ليالٍ إحترق فيه فؤاده من هول الفقد كما كانت سيجارته تحترق بين شفاهه... كان لون الحياة يتحوّل، في نظره، من الوردي إلى القاتم... فآخر ما كان يتوقّعه هو أمر إنفصالهما... يذكر جيّدا أيضا أنّها سافرت إلى باريس بعد أسبوع واحد من إنفصالهما.... هذا ما لم يعني بالنسبة إليه إلا أمرا واحدا.... أنّها نظّمت حياتها و أخرجته منها ثمّ قرّرت أن تخبره بأنّه ما عاد يُناسبها... حينها... حينما بدأت هي حياة جديدة... في مكان جديد... كان هو في حاجة إلى نفس جديد يُعيده إلى الحياة... كان في حاجة إلى يد ترفعه من الهوّة الساحقة التي أوقعه غدرها فيها... في ذلك الوقت الحرج ظهرت " رؤية" ... أم طفله... تلك الفتاة التي كان وجهها مألوفا بالنسبة إليه.... فقد إرتادا نفس الجامعة.... قابلها صدفة في الإجتماع السنوي لقدماء الجامعة... تلك المقابلة التي خالها صدفة لم تكن كذلك... فقد أخبرته " رؤية" بعد زواجهما أنّها كانت تقتنص الفرصة للقائه منذ أيام الدراسة...

في ذلك الوقت الذي كان فيه هشّا... كانت " رؤية" كالقشّة التي يتمسّك بها الغريق... كانت له صديقة... إستمعت إليه و تحمّلت ثورات غضبه و شطحات جنونه... حين إعتُقل على خلفية نشاطه السياسي، لم تترك والدته التي لم يكن لها من الأبناء غيره... بل كانت لها بمثابة الإبنة... لم تتركه بل آزرته و لازمته كظلّه... كانت تحضر محاماته و تتابع سير القضية مع المحامي... و حين تحرّر من سجنه وجدها في إنتظاره... كانت " رؤية" الصديقة التي لم تتركه و كانت " لين" الحبيبة التي تركته من أجل ما سمّته بالحياة الهادئة... شيئا فشيئا توطّدت علاقته ب"رؤية"... كانت تعلم أنّه مغرم بأخرى حدّ الثمالة... تقبّلته كعاشق مجروح و كانت له مهربا و ميناء سلام... صارحته بحبّها... و فاجأته بأنّها تودّ أن تكون معه فقط.... لن تطالبه بشيء... لن تطالبه حتى بأن ينسى " لين" أو أن يحبّها بقر حبّها له.... حينها.... وقف عاجزا أمام كلّ هذا العطاء الذي لمسه من ناحيتها... كان في حاجة إلى أن يشعر بأنّه مرغوب... كان في حاجة إلى حب إمرأة.... قرّر أن يطلب " رؤية" للزواج... ربّما يتسلّل حبّها إلى قلبه مع الأيام فينسى " لين" فيتخلّص بذلك من لعنة الحب الأول... و كان الأمر كذلك... تزوّجا فكانت له نِعم الصديقة و الرفيقة... لكنّها لم تتحوّل أبدا إلى شريكة... إلى حبيبة... إلى توأم روحه، كما كانت لين، و ستبقى.... كان يعلم أنّه يظلمها لأنّه لم يمنحها الحب الذي تستحقّه....

كان يحاول إسعادها خاصّه أنّها كانت تواجه جحود قلبه بإبتسامة رض.... صارحته في ساعة صفا أنّها كانت مغرمة به مُذ كانا في الجامعة.... أخبرته أنّها كانت تراقبه من بعيد دون أن تجرؤ على الإقتراب.... أخبرته عن ألمها حين كانت تراه رفقة " لين".... يذكر جيّدا أنّها ادت تُجنّ فرحا حين أعلمها الطبيب أنّها حامل.... و رغم أنّ الحمل كان خطرا على صحّتها إلاّ أنّها رفضت إجهاضه... لقد كان قلبها ضعيفا... لا يحتمل ضغط الحمل و آلام الولادة.... لكنّها جازفت بحياتها حتى تمنح إبنها منه الحياة.... ماتت بعد شهرين من وضع وليدها الذي وُلد بمشاكل في التنفّس.... عاش الصغير الذي تمسّك بالحياة.... لكن أمّه غادرتها... إختارت له، قبل رحيلها، إسم " باسل"..... تركته زوجته فكان عليه أن يلملم حزنه عليها ليكون أمّا و أبا لإبنه.... لا يستطيع أن ينكر أنّه أحبّها و أنّها تركت فراغا كبيرا في حياته.... لكن ما شعُر به تجاهها لم يكن حبّا بقدر ما كان إمتنانا.... كيف لما جمع بينهما أن يسمّى حبّا و الحال أنّه ما نسي " لين" لحظة واحدة... أخذ يضغط بيمناه على يسراه حتى يُخفّف موجة التوتر التي تسيطر على كيانه.... كان يسترق النظر إليها و كأنّه يخشى إختفاءها فجأة.... ها قد توقّف المترو فإنتفضت كي تغادر.... أسرعت مختبئة بين الجموع المستعدّة للنزول... لحق بها... سيقتفي أثرها.... فأثر الفراشة لا يختفي... لن يتركها تذهب و في ظنّها أنّه يخون زوجته و يحاول التلاعب بها.... عالأقل عليها أن تعرف حقيقة ما يحدث..... أخذ يبحث عنها في أرجاء المحطّة دون أن يدركها مدى نظره.... كان يلتفت هنا و هناك إلى أن باغتته يدٌ تلامس كتفه... إنّها يدها.... نظرت إليه بثبات و قالت " هذه أنا.... لم أهرب هذه المرّة.... أنا هنا كي أسمع ما لديك.... للمرّة الأخيرة..."....


كانت عيناها تقدحان  شررا... ألما و خذلانا... فالمتأمّل في قصّتهما يدرك أنّ من ترك الآخر في حقيقة الأمر هو... و ليست هي... و لعلّ أكبر دليل على ذلك أنّه إستطاع أن يستبدلها بأخرى... أمّا هي فبقيت في مكانها... أقفلت على قلبها برجا عاجيا و حرّمت عليه حب غيره من الرجال... خاطبته بلغة العيون و كأنّها تقول له " فرق كبير بيننا يا سيدي.." وقف مذهولا لبرهة ثمّ أشار إلى أقرب مقهى فقصداه... إتّخذا لهما مكانا بين الطاولات الشاغرة فكان إختيار الطاولة إعتباطيا شأن ما خالا أنّه يجمع بينهما... جذبت الكرسي بعنف متناسية كلّ آداب اللّباقة و متطلّبات الأنوثة.... حسبها الآن أن تصبّ جام غضبهت عليه... لقد بقيت طوال السنوات الماضية تلوم نفسها على ما حدث بينهما في حين كان يؤسّس حياته مع أخرى... يبدو أنّها منحته فرصة جديدة لحياة أفضل حين تركته... ألا يجدر به أن يشكرها على هذا على الأقل؟!

جلس أمامها و كأنٍه في حضرة قاضٍ شديد البأس لن يغفر له أيّ زلّة... و لكن لماذا يمنحها أصلا حقّ محاسبته... أو ليست هي من إختارت الإنفصال؟!... إستعجلته قائلة " تفضّل... كلّي آذان صاغية... ماذا لديك لتقول؟..." هكذا إذن... تريده أن يتكلّم! سوف يقول كلّ ما إختلج و يختلج بصدره.... سيقول كلّ ما يخطر بباله دون تحفّظ أو تزويق أو مراعاة... ثبّت نظره في عينيها كما يثبّت القنّاص نظره و على هدفه قبل إطلاق الرصاصة و قال " لستِ في حاجة إلى أن أذكّرك بأنّك من قرّر الإنفصال و نفذّه دون تردّد... لستُ في حاجة كذلك إلى أن أذكّر نفسي بسيلان الوجع الذي جرف كياني بعد أن إكتشفت أنّ ما خلته حكاية حب لم يكن سوى وهما زائفا... بعد أن إكتشفت أنّك تضمرين عكس ما تظهرين... ظهرت في حياتي زوجتي " رؤية" أمّ " باسل"... ظهرت كنبراس يضيء أملا وسط ظلمات أشجاني... في الوقت الذي تركتني فيه و  ساومتني على بقائك معي...

كانت هي معي... كانت بجانبي دون مقابل... تزوّجتها... أجل.... لجأت إليها كي أنسى وجع حبّك ووجدت في حبّها لي بلسما لجراحي... تزوّجتها طلبا للإستقرار أكثر ممّا كان سعيا للسعادة.... تزوّجتني... أحبّتني دون أن تشتكي من المراقبة الأمنية المسلّطة عليّ... تقبّلتني بتمرّدي و مشاكلي التي لا تنتهي... ساندت نشاطي السياسي و إلتقطتني من الحضيض... و رغم كلّ ذاك العطاء لم يتمكّن عشقها منّي... أتعرفين لماذا؟ لأننّي كنت مفتونا بك... و كم أكره نفسي، و مازلت، بسبب ذلك... " أرادت أن تستوقفه... أن تقطع حديثه و أن تترك المكان و لكنّه لم يمنحها الفرصة... فقد إسترسل في الكلام و كأنّه يزيح حملا ثقيلا عن كاهله... واصل كلامه الممزوج بمرارة الألم" تزوّجت " رؤية" و تمنيّت لو أمهلني القدو مزيدا من الوقت كي أكافئها على سخاء قلبها و لكنّ الموت كان أسرع منّي.... أجل... لقد غادرتنا " رؤية" بعد ولادة " باسل" بشهرين.... تأمّلي إذن سيّدتي الفرق بين إمرأة سلبتني وجودي و لم تمنحني سوى الهزيمة و أخرى منحتني كلّ شيء مقابل لا شيء... إرتاحي... فأنا لا أخون زوجتي و لا أضمر نيّة التلاعب بك... "


لماذا تتالى عليها المفاجآت هكذا؟ تزوّج و أنجب و توفيّت زوجته؟ حدث كلّ هذا معه بعدها؟! يُقارن بينها وبين زوجته المتوفّاة و كأنّه يماثل بينها وبين الساحرة الشريرة مشبّها الأخرى بالملاك الطاهر!... تُراه يُدرك حجم الأذى الذي يسبّبه لها؟ ماذا ينتظر منها؟ أن تعتذر عن قرار الإنفصال؟ لا لن تفعل ذلك حتما! ساد صمت قاتل بينهما... كانت تشعر خلاله أنّ هناك أيادٍ خفيّة تمتدّ إلى عنقها... تلتفّ حوله.... و تخنقها... كانت تتنفّس بصعوبة... حتّى أنّ سقما مفاجئا حلّ بمعدتها... كانت في حاجة إلى مخرج من هذه المتاهة... فهيّ رغم ما تدّعيه من قوّة و رباطة جأش، عاجزة عن مواجهة هذه الحقائق الصادمة... لقد كانت غبيّة فخالت أنّه مثلها... أمضى سنواته الأخيرة واقفا على أطلال حبّها... و كم كانت مخطئة... آن الأوان كي تضع حدّا لهذه المسرحية الهزلية المبتذلة... نقرت بأصابعها على الطاولة فكاد كوب العصير الذي طلبه لها قصرا أن ينقلب على وجهه... نظرت إليه فوجدته ينازع الولاّعة حتى يشعل سيجارة... غالبت تأوّهاتها و قالت " ها قد إستمعت إليك... آسفة من أجلك و من أجل إبنك لفقدانكما زوجتك رحمها اللّه... و آسفة أيضا إذا ما أسأت الظنّ بك... عليّ أن أذهب الآن..." أهذا كلّ ما لديه لتقول؟! ماذا إنتظرت منه؟ أن يقبّل قدميها طلبا للسماح لأنّها هي من تخلّت عنه؟ أن ينسى الأذى الذي سبّبته له؟ لم يكن قد إنتهى من حواره الباطني حتى لمح قامتها تستقيم مُغادرة... لن يوقفها و لن يسألها عدم الرحيل... لم يفعل ذلك من قبل و لن يفعل ذلك اليوم... كانت في حالة غريبة من البرود... يعجز لسان حالها عن وصفه... فهي قابعة هناك... بين بين... بين الحب و الكره... هوّ بالذات ذاك الإحساس الذي يسمّيه البعض " اللاّحب"... كلّ ما كانت تحتاجه هو الخلود إلى النوم... أجل فساعات النوم وحدها كفيلة بتخدير ألمها و لو لحين... نهض بدوره عن الطاولة و أفسح لها الطريق حتى تمرّ.... لامست خصلات شعرها خدّه... لامس كتفه كتفها و مرّت... كما لو كانت غريبة... مضت دون حتى أن تلتفت... ماذا كان يأمل من قصّة إنتهت إلى الأبد... هل يعود الموتى إلى الحياة؟ قطعا لا... إذن لا أمل في أن يُبعث حبّهما من جديد....

وصلت إلى المنزل... كانت عاجزة حتى على البحث عن المفتاح في حقيبتها... دقّت الجرس... فتحت أمّها الباب فإرتمت في حضنها... كانت تودّ أن تصرخ و لكنّ صوتها خانها... كانت تريد أم تصرخ في وجه نفسها و تخبرها كم كانت غبيّة حين ظنّت أنّه سينذُر لها نفسه على طول الأيّام... سألتها أمّها و هي تمرّر أناملها الحنونة على جبينها " ماذا حلّ بك يا إبنتي؟ هل هند و طفلها بخير؟ أخبريني ماذا حدث؟ " أخفت وجهها بين أطراف وشاح أمّها كما تُخفي النعامة رأسها في التراب هربا من مواجهة ما تخشاه... أمسكت ذراع أمّها بكلتا يديها و كأنّها تطلب منها المدد و غمغمت قائلة " أنا أتوجّع يا أمّي... أتوجّع وجع الدهر... وجعا كتمته طويلا في نفسي فتسمّمت أعماق روحي... أنقذيني يا أمّي من هذا الألم... لقد ظننت نفسي قويّة و لكني لست كذلك... أنقذيني من نفسي يا أمّي... من علقم الهزيمة أمام ذاتي يا أمّي... أريد أبي... أجل أريد أبي... أخبريه أن يأتي ليضمّني إلى صدره فأشعر بالسكينة و الأمان... أخبريه أنّ إبنته أكبر مغفّلة في هذا العالم... أخبريه بأنّ إبنته قد آذت نفسها كما لا يمكن لأحد أن يؤذيها... " ضمّتها أمّها بقوّة و قبّلت يديها المرتجفتين و همست في أذنها" إهدئي يا إبنتي... إهدئي... كفاك بكاء فكلّ دمعة تنزل من عينيك تُغرس خنجرا في قلبي... رفقا بنفسك يا صغيرتي... أنا هنا من أجلك... تذكّري أنّ لديك عائلة تهواك حبيبتي... تذكّري أنّك فخر والدك و سند أخويك... لا شيء يستحق أن تقرّعي نفسك بهذه القسوة"... أعادها كلام أمّها إلى رشدها... من يكون " تيم" كي تذرف الدمع من أجله الدمع بهذه الحرقة؟ هو ليس سوى خيالا من خيالات الماضي... حكاية مكانها الصحيح صندوق الذكريات.... إبتعدت قليلا عن أمّها و إعتدلت في جلستها... جفّفت وجهها من الدمع المنهمر على وجنتيها يمنة و يسرة... نظرت إلى الساعة التي تزيّن معصمها فأدركت أنّ الوقت قد تأخّر و أنّ عليها أن تخلد إلى الراحة بعد هذا اليوم الرهيب... ففي إنتظارها عمل كثير و رسالة دكتوراه عليها أن تُنجزها... تمنّت لوالدتها ليلة هادئة و همّت بالوقوف متّجهة نحو غرفتها فأمسكتها أمّها من رصغها و قالت " بُنيّتي... مهما كان ما حدث معك عليك أن تتجاوزيه.... تعلّمي أن تقنعي نفسك كلّ يوم أنّك قويّة كي تستمرّي... فمازال في الدرب درب يا إبنتي..." إنحنت مقبّلة جبين أمّها النديّ و همست " شكرا أمّي... شكرا لأنّك أمّي..."


منال عبد الوهاب الأخضر

 لعنة الحب الأول #15