Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149
ركين #24
تركت الغرفة راكضة نحو الردهة و تزامن وصولها صوب الباب مع وصول "سعاد" و "أمل"...." أمل" تلك الطفلة ذات الست سنوات التي بذلت "ركين" ما تملك من مساع كي تتبناها... قد إعتادت منذ أصبحت مستقلة مادّيا التردّد على دور الأيتام... تزور الأطفال حاملة لهم ما تيسّر من الملابس و الهدايا و الألعاب في محاولة منها لإزالة شيء من سقم أرواحهم... فهي تدرك جيّدا معنى الفقد و تفهم جيّدا معنى اليتم و ثقل الشعور بالوحدة في هذا العالم الواسع، البارد و البليد..
و قد صادفت "أمل" في إحدى زياراتها... بدت لها أكثر كآبة من غيرها من الأطفال... حتى أنّها لم تسعد مثلهم بما جاءت به من أغراض بل كانت تتّخذ لنفسها ركنا من أركان الحديقة... تجلس بلا حراك... وجهها خالٍ من الإنفعالات و ثغرها من الإختلاجات خلو الجثة من الحياة... كانت صامتة، ساكنة سكون الليل في عتمة الإنتظار... شدّت ظفائرها السوداء المسدولة حول وجهها الأبيض الملائكي المستدير إنتباه "ركين". ... و كأنّ ذاك الوجه كان يدعوها إلى أن تنظر إليه و تلمح الدمع المختبئ بين أهداب" أمل"...
تذكر جيّدا أنّها رأت الصغيرة أكثر من مرّة و في كلّ مرّة كان وجودها بعيدا عن بقيّة الأطفال يلفت إنتباهها و كانت تشعر أنّ قلبها متلهّف لها... و كأنّ هناك رابط خفيّ يربط بينهما... إبتسمت "ركين" حين لاحت أمام عينيها ذكرى ذاك اليوم الذي قرّرت فيه أن تقتحم خلوة تلك الصغيرة... إقتربت منها تاركة حشد الأطفال الذين إلتفّوا حول الهدايا و الألعاب... توقّعت منها أن تترك تلك الزاوية و تهرب من المكان برمّته و لكن "أمل" كانت هادئة... متشبّثة بزوايتها... إقتربت منها و جثت على ركبتيها و خاطبتها "مرحبا يا عزيزتي".... و لأوّل مرّة رمشت الصغيرة بعينيها و إفترّ ثغرها عن إبتسامة قصيرة، خجولة و متحفّظة دون أن تنبس ببنت شفة... و منذ أهدتها" أمل" تلك الإبتسامة، إنبعث أمل جديد في نفس "ركين"و أخذت تتردّد أكثر على المكان و تحاول في كلّ زيارة أن تبقى وقت طويلا مع "أمل" التي بدأت تتخلّى عن صمتها و تخرج عن إنزوائها و حدّثت "ركين" عن حزنها لفقدان والديها و شقيقتها الصغرى في حادث مرور أودى بحياة ثلاثتهم... تذكّرت أنّ عبارات الصغيرة قد إختنقت بفعل البكاء و هيّ تحدّثها عن وجع روحها فما كان منها إلاّ أن سارعت إلى ضمّها بقوّة و كأنّها تعانقها بقلبها...
و كان ذلك العناق كافيا لجعل "ركين" تقرّر أنّها لن تترك "أمل" في الميتم و إنطلق سعيها إلى تبنّيها و قد واجه طلبها الرفض في البداية نظرا لأنّها ليست متزوّجة و ليست مستقرّة في تونس و لكنّها لم تيأس وواصلت السعي نحو هدفها مستعينة في ذلك بعلاقاتها الإجتماعية الجيّدة ... كما لم تتدّخر الدكتورة "سعاد" جهدا لإتمام الأمر... و قد تمّ أخيرا و اصبحت " أمل" إبنتها رسميّا.... دلفت "سعاد"إلى الباب ممسكة بتلك الأنامل الصغيرة...
أنامل "أمل" التي سرعان ما تركتها و ركضت نحو "ركين" التي إستقبلتها بذراعين مفتوحين و عانقتها كما تعانق فراشة الضوء نور القمر... تمسّكت الصغيرة بعنقها و طبعت قبلة دافئة على خدّها و همست " لقد إشتقت إليك كثيرا... أنا سعيدة جدّا لأنّني سأعيش معك منذ الآن"... كانت كلماتها البريئة بمثابة بلسم لكلّ جراحها... ففي تلك اللحظة نسيت كلّ آلامها و مخاوفها.... و كأنّها أصبحت قادرة على تجاوز كلّ خيباتها... الكلام.... و كأنّه وصفة سحرية إذا ما وضع الإنسان مقاديرها الصحيحة و المتناسبة مع بعضها البعض كان سبيلا لشفاء القلوب و لتوقّف نزف النفوس ألما... لعلّه أقوى أسلحة الإنسان لتحويل الزحام إلى جمع أليف و الضعف إلى قوّة و الألم إلى أمل... سعيدة هي بحضور " أمل" في حياتها و ستكون أسعد بمكوثها الدائم معها... فهي ترى نفسها فيها و ستسعى، بكلّ ما أوتيت من قوّة أن تدرأ عنها شرور هذا العالم و أن تحميها من جبروته...
Website Design Brisbane