Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

شيزوفرينيا #4

manel-abdelwaheb-schizophrenia2Manel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر


إعترى الخجل كايا لأن نظرات عمر جعلتها تشعر أنها ربما تكون قد بالغت في زينتها.... و لكنه سرعان ما تدارك الأمر و دفع الحرج عنه و عنها.... دعاها إلى الجلوس و طلب من الممرضة أن تحضر لكليهما شرابا ساخنا فالطقس بارد و الشتاء قد حط على البلدة بكل ثقله هذه السنة....

بيد أن برودة الطقس و قساوة الشتاء لا تخفي ملامح الربيع الذي يزهر في قلب الطبيب الشاب كلما رأى مريضته كايا... لم يفكر يوما في إمكانية وقوعه في غرام إحدى مريضاته... لكن، يبدو أنه في الحب فعلا لا كيف و لا متى...قاطعه صوت طرقات خفيفة على الباب... إنها الممرضة و قد أحضرت كوبين من الشوكولا الساخنة...

إنحنت تضع الطبق فحجبت عنه وجه حبيبته فباغته شعور مقيت بالإختناق.... لا يعلم حتى كيف وصل في عشق كايا إلى درجة الشغف... في تلك الثواني المعدودة كانت هي قد تركت المقعد لتقف أمام لوحة فان غوغ متأملة تفاصيلها المليئة بالتناقضات التي تحاكي في حدتها التناقضات التي يحملها كل وجود إنساني...للحظات تخيلت كايا نفسها مكان فان غوغ داخل إطار اللوحة... ستكون واجمة مثله لكن ستحاول أن تبتسم كما يفعل... لكنها لن ترتدي معطفا أخضر... ستستبدله بقميص أزرق سماوي  و لن تدخن غليونا شأنه بل سترتشف قدحا من القهوة و لن تكون أذنها المضمدة بل قلبها... و إذا ما حدث و كانت مكانه داخل إطار اللوحة لن تكون الخلفية حمراء-برتقالية بل ستكون بيضاء... بل ناصعة البياض... لم تدرك أنها غاصت في ثنايا اللوحة إلا حين شعرت بيد تلامس كتفها برفق... إنه عمر يذكرها بأن عليهما أن يستهلا جلسة العلاج... إتجهت في صمت نحو الأريكة الوردية المريحة... تمددت محاولة الإسترخاء على وقع نغمات المقطوعة الموسيقية المعتادة... مقطوعة Mon amour التي تبعث في نفسها سكينة و سلاما يجعلانها تستسلم تماما لعقلها الباطن و تسمح لطبيبها بالتسلل إلى خبايا روحها السقيمة... أغمضت عينيها و أطلقت العنان لصوتها الذي إسترسل يردد في هدوء

" شباكك مطفي يا يما وقليبك مطفي

وشلون ابين بالعتم بس اجا ولفي

تقولي بس اكبر يا يما تقولي بس اكبر

عيوني تلم الليل تقولي بس اكبر

واقعد وانطر ليليه

اسمر يدق الباب

وبالغمزة يشفي

شباكك مطفي يا يما وقليبك مطفي

وشلون ابين بالعتم بس اجا ولفي

تقولي واشيلو يا يما تقولي واشيلو

بالرمش وجوا العين تقولي اشيلو

لو توصيلو حبيبي

يسهرني طول الليل

ما قول يكفي"...

إكتفى عمر بمراقبتها و هي تدندن لحنا شجيا مقترنا بكلمات مشحونة شجنا... رأى دموعها تنهمر بغزارة تضاهي غزارة مياه شلال ما... كان عليه أن يتدخل... عليه أن يدفعها إلى الكلام بأي طريقة كانت، فحديثها معه عن ما يكتنز في صدرها من آهات مرهقة هو شرط إمكان علاجها... سألها بتأنٍ و حذر " أخبريني عن قصة هذه الأغنية عزيزتي كايا... لقد أسرتني كلماتها فعلا !   ".... فتحت عيناها بتؤدة و فتور و كأنها تستنكر إقتحامه لخلوتها مع نفسها و تأوهاتها التي لا ذل فيها... زينت ثغرها الرقيق بإبتسامة مرهقة و قالت " إنها الأغنية التي كان أبي يدندنها على مسامعي كل ليلة كي أنام حين كنت طفلة "... خيّم الصمت على المكان لجزء من الثانية إلى أن إستدرك عمر الأمر و سألها ثانية " لماذا تذكرتها اليوم بالذات ؟ ما الذي دفعك إلى إستحضارها اليوم بالذات ؟"...  عدّلت كايا فستانها

و جلست على طرف الأريكة لأنها قررت اليوم أن تفصح عن مكنونها... أخذت نفسا عميقا و  قالت دون أن ترفع نظرها عن الأرض " لطالما أحببت هذه الأغنية لأنها كانت تساعدني على النوم... و لكني اليوم أفهم الألم الذي كان يعتصر أبي و هو يغنيها... أفهم أن ما كنت أظنه رذاذ قطرات الماء الذي ترسله لي الحوريات لأني فتاة مطيعة لم يكن سوى رذاذ دمع أبي المتساقط بخجل... وجدت نفسي أردد كلمات الأغنية  اليوم بالذات لأنني أريد أن أتحدث عن جرحي الذي لن يندمل... جرحي الذي تسببت فيه من أنجبتني و هجرتني دون شفقة أو رحمة... أتساءل دوما عن مبرراتها و عن موقفها إذا حدث و تقابلنا يوما ما... هل ستتذكرني؟ هل ستعانقني و تبكي أم أنها ستطلب مني الرحيل؟... رأسي يكاد ينفجر يا عمر... و مخاوفي تكبر يوما بعد يوم... أريد أن أصرخ في وجهها و أن أخبرها عدد المرات التي إحتجتها فيها و لم أجدها... أريدها أن تعلم أني تمنيت أن تضمني حتى أنام... أن تدندن لي لحنا يونانيا دافئا و أن تقص علي حكاية قادمة من عمق الأساطير".... لم تتمكن من مواصلة الكلام فقد أجهشت بكاء و لم يع عمر بنفسه و هو يترك مقعده و يعانقها... و كأنه يسكب الألم من روحها إلى روحه... يريد فقط أن يخفف عنها و أن يشعرها بالأمان... هي مريضته المميزة و حبيبته التي طال إنتظاره لها... توقف الزمن في تلك اللحظة بالنسبة إليه... أما هي... فقد شعرت براحة لم تشعر بها قبل الآن إلا و هي في حضن والدها... أرادت أن تتكلم... أن تشكر عمر لأنه ليس مجرد طبيب بالنسبة إليها و لكن الكلمات لم تجد طريقها إليها... ربما لأن حروف الأبجدية قد خشيت إهلاك قدسية اللحظة... إكتفت بالصمت... فاجأتها كلماته الهامسة في أذنها " تبدين مشرقة حتى و أنت تبكين ".... إختلطت الدموع المتساقطة من جفنيها بإبتسامة  طفولية تجاهد الحزن كي ترتسم على ثغرها... لهذا الرجل تأثير سحري عليها... عمر... يا له من رجل مميز!!
إنتهت جلسة العلاج و غادرت كايا عيادة عمر بعد أن أعارها كتابا جعلها تعده بقراءته خلال أسبوع كي يناقشاه خلال الجلسة المقبلة... عنوان الكتاب " الرقص مع الحياة ".... يبدو العنوان مغريا و عليها أن تفي بوعدها...
وصلت المنزل و ما إن فتحت الباب حتى تخللت أنفها رائحة زكية... إنها رائحة أكلتها الشتوية المفضلة

" حساء الخضروات و الدجاج "... ستنسى تعب يومها و ألم قلبها و زخم الحياة برمتها كي تستمتع بوجبة عشاء دافئة مع والدها الحبيب...


رواية منال عبد الوهاب الأخضر - رسمة شاكر عكروتي
شيزوفرينيا #4