Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

ركين #19

roman-novel-love-amourManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر



تجاوزت الساعة منتصف الليل حين كانا على مشارف القرية... رفع صوت المذياع عُنوة حتى تستيقظ من نومها... فتحت عينيها بصعوبة و كأنّها تأبى ترك حلم جميل لم يكتمل بعد...

أجالت بصرها من داخل السيارة إلى خارجها فأدركت أنّهما قد وصلا القرية... سارت السيارة نحو منزل الخال و بدت معالم الفوضى واضحة عليه فهناك مواد بناء مبعثرة هنا و هناك... آلات محطّمة... زجاج مكسور... لقد هدّموا المكان بأتمّ ما للكلمة من معنى... يبدو أنّ محرّضهم قد حدّد لهم الهدف بوضوح... فما من رسالة أوضح من ما حدث... رسالة تهديد مباشرة لها و لكلّ من يساند مشروع المدرسة... تركت السيارة مسرعة و دلفت الباب الخارجي باحثة عن الخالة "حليمة" و سرعان ما أدركها نظرها...

ها هي هناك... قابعة على كرسيها الخشبي المنقوش كالعادة... تشدّ رأسها برباط تحاول من خلاله طرد آلام الصداع و هي تحمل بين أصابعها حبّة دواء... لابدّ أنّ ضغط دمّها قد إرتفع جرّاء ما حدث... حثّت الخطى نحوها و جثت على ركبتيها و قالت " خالتي حليمة هل أنت بخير؟ هل آذاك أولائك الهمجيون؟"... ربّتت على كتفها و أومأت برأسها مشيرة أنّها بخير" أنا بخير يا صغيرتي و لكنّ المكان ليس كذلك... أرأيت ما فعله أشباه الرجال؟ لقد حطّموا كلّ ما طالته أيديهم و أبرحوا عمّال البناء ضربا... لقد كانوا يصيحون مهدّدين بقتلنا... أنا و أنت... لقد نعتونا بألفاظ نابية يندى لها الجبين... أنا التي حظيت بإحترامي رغما عن أنف الجميع، طوال هذه السنوات، يتمّ شتمي من قبل ثلّة من مدّعي الرجولة... آه ثم آه يا إبنتي... يبدو أنّنا سنواجه المزيد من المشاكل... فمشروع المدرسة خطر يهدّد بقاء قبضتهم محكمة على بناتهم، زوجاتهم و أخواتهم.... "....

قبّلت يدها... أخذت نفسا عميقا ثمّ رفعت نظرها نحوها و كأنّها تروم أن تطمئنها و قالت مؤكّدة" كوني على يقين أنّ لا شيء سيثنيني عن بناء المدرسة و أنّ لا أحد سيحرم فتيات القرية من حقهنّ في التعليم... أعدك أنّ ما حدث لن يتكرّر و أنّ من أهانك سيدفع الثمن من حريّته... تذكّرت فجأة أنّ "آسر" يصحبها... من المؤكّد أنّه ظلّ خارج البيت... إستقامت مسرعة و توجّهت إلى الخارج و هيّ تضمّ شفتيها إلى بعضهما البعض و هي تتمتم " يا لغبائي! "... هاو هو هناك.... يقف جانب سيارته مدخّنا سيجارته في هدوء، بيد أنٍ ذاك الهدوء لم يكن سوى سطحا لعمق مختلف تماما... هدوء يخفي وراءه بركان غضب و نزيف جرح لم يلتئم رغم مرور كلّ هذا الزمن... إقتربت منه و همست" أنا آسفة لأنّي تركتك تنتظر خارجا... تفضّل إلى الداخل كي أعرّفك على زوجة خالي ".... جذب النفس الأخير من سيجارته و كأنّه عاشق يقبّل محبوبته القبلة الأخيرة... و كأنّه يودّع آخر ذبذبات الغضب التي سكنته مذ وصل إلى القرية... رمى أعقاب سيجارته على الأرض و داس عليها بقدمه و كأنّه يمحي كلّ أثر للألم يمكن للآخرين أن يدركوه... دلف المنزل الذي كان يشبه منزل جدّه كثيرا... ذاك المنزل الذي كان يزوره رفقة أمّه و كان بالكاد يبقى فيه.... إذ سرعان ما كان يعود إلى والده حتى لا يبقى وحيدا في الأرض... لقد كانت أرض والده و الأجداد مملكته... لقد كان يركض في ربوعها كما الطير الطليق الذي تعلّم لتوّه الطيران...

لقد كان غضّا طريّا حين سلّطت الحياة عليه وحشا آدميا سلب منه كلّ أسباب السعادة و مصادر الأمان و الطمأنينة......

و بات صبيّا يتيما محروما حتّى من سقف يبيت فيه ليله... و رغم ما حقّقه اليوم من نجاح مهني و إستقرار مادّي إلاّ أنّ روحه مازالت جريحة و لقب اليتيم مازال يلاحقه و شوقه لأبيه يتعمّق يوما بعد يوما و حاجته إليه تزداد مع كلّ فجر يوم جديد و تمتدّ معها الهوّة الساحقة بينه و بين قرية "كفّ الصبي"...
أعاده صوت" ركين" إلى أرض الواقع... فقد كانت تعرّفه على زوجة خالها... تلك المرأة التي ماكانت بغريبة عنه البتّة... إنّها الخالة "حليمة" ذاتها... قريبة والدته و صديقتها... لقد تردّدت كثيرا على منزلهم، تتسامر و أمّه و تطهوان معا الأرزّ بالحليب و الرمّان... ذاك الطبق الذي لم يتناوله منذ غادر القرية... بقيت "حليمة" تتفرّس ملامحه و تدقّق إختلاجات وجهه... كانت تحاول أن تربط بين صورة "آسر" الطفل و صورة هذا الشاب الماثل أمامها... لا يمكن أن تتوه عن عينيه اللّتان تشبهان عيني أمّه "زينة"... إبنة عمّتها و صديقة الطفولة و الصبا و الشباب...

لابدّ أنّه هوّ.... ذاك الصغير الذي غادر القرية رفقة والدته و جدّته بعد وفاة والده و أصبحوا بلا مأوى أو مصدر رزق...تقدّم نحوها محاولا أن يتمالك نفسه... فآخر ما كان يتوقّعه هوّ أن يقوده القدر إلى هذا المكان مجدّدا، فيلتقي بفضل "ركين" بالشخص الوحيد الذي يملك عنه ذكريات طيّبة في هذه القرية... مدّ يده مصافحا إيّاها و لكنّها جذبته نحو حضنها و عانقته عناقا لخّص شوق إمرأة لإبن أقرب الناس إليها بعد فراق سنوات طويلة.... عانقته باكية سائلة " كيف حال أمّك يا بني؟ هل مازالت جدّتك على قيد الحياة؟ "... بادلها العناق بدوره و غالب دمعه و شحرجة صوته و قال" أمّي بخير خالتي حليمة أمّا جدّتي فقد إنتقلت إلى رحمة ربّها منذ أربع سنوات ".... كم تبدو الحياة غريبة... و كم يبدو القدر بارعا في صنع المفاجآت و رسم الإنحناءات في خطوط سير شخوص هذا العالم.... فقد شاءت الظروف أن يتعرّف على" ركين" في مكسيكو ليجد نفسه فجأة في قرية "كفّ الصبي" مرّة أخرى... علي مقربة من الرجل الذي تسبّب في وفاة والده و إنهيار دنياه.... و في حضن المرأة التي كانت بمثابة خالة له... هذه المرأة التي ما توقّفت أمّه أبدا على ترداد إسمها و بكاء فراقها الجبري طوال الأيام الماضية... لا يمكن أن يكون لقاؤه ب"ركين" محض صدفة... لابدّ أنّ هناك مغزى من تعثّرهما ببعضهما البعض في درب الحياة....


يتبع

منال عبد الوهاب الأخضر


Saveركين #19