Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

شيزوفرينيا #2

manel-abdelwaheb-schizophrenia2Manel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر


غادرت كايا المنزل نحو مكتبها و رأسها يكاد ينفجر من إكتضاض الأسئلة التي تداهمه من كل حدب و صوب... في ذهنها شتات من الأفكار يشبه في فوضاه المنظمة ذلك النظام الآيل للسقوط داخلها... هذه هي حقيقتها التي خلفها غياب أمها عنها....هي ليست سوى كيانا متناقضا يحارب بكل ما أوتي من قوة كي يتحرر من سجن التناقضات التي تنخره في كل وقت و حين... حتى إبتسامتها الدائمة لا تعدو أن تكون قناعا... وسيلة إخفاء و تمويه تحمي بها نفسها من أسئلة الآخرين

و من نظرات العطف و الشفقة التي يوجهونها لها كلما سنحت لهم الفرصة بذلك...فهي في نظرهم تلك المسكينة التي هجرتها أمها... لطالما سألت نفسها " هل    أنا مسكينة فعلا ؟ "....
سرعان ما عادت من صراعها الداخلي مع أكبر هواجسها " رحيل أمها غير المبرر"... صعدت الدرج المؤدي إلى مدخل المبنى حيث يوجد مقر عملها... لديها الكثير لإنجازه اليوم... عليها أن تنتهي من تصميم ديكور حضانة إقترب موعد إفتتاحها و عليها أن تتصل بعمها كي تهنئه بيوم ميلاده....عليها كذلك أن تقصد السوق لإقتناء بعض الأغراض الخاصة بالمطبخ و أن تبتاع سترة جديدة لوالدها... رباه!!! لقد كادت تنسى أهم مواعيد هذا اليوم.... موعدها مع طبيبها النفسي

" عمر " الذي تحول  في فترة وجيزة من مجرّد طبيب إلى صديق مقرب...مقرب جدا إلى الدرجة التي جعلته يفك شفرة عينيها العميقتين بسلاسة و سهولة كما لم يفعل أحد من قبل... لا راحة تضاهي تلك الراحة التي تشعر بها و هي تتمدّد على تلك الأريكة الأرجوانية في عيادة "عمر" النفسية... تتمدد و تنسى كل الخزعبلات التي تدور في العالم الخارجي... تتمدّد و تنغمس بكل حواسها و ما أوتيت من أحاسيس في تفاصيل لوحة
''فانسنت فان غوغ'' التي تحمل إسم ''صورة ذاتية بأذن مضمدة''

autoportrait à l'oreille bandée...

لهذه اللوحة تأثير سحري عليها...كل ما فيها من تفاصيل، بدءا بالألوان... مرورا بالأذن المضمدة... وصولا إلى الغليون، يبعث الطمأنينة و السكينة في نفس المتأمل فيها... إن الراحة التي تحملها لها اللوحة لا تكتمل إلا في حضور تلك الموسيقى الملهمة التي يحرص طبيبها أن لا تغيب عن جلسات العلاج خاصّتها....إنها مقطوعة mon amour الشهيرة... توقف المصعد في الطابق السادس و إنقطع حبل أفكارها مع توقفه...تركت المصعد و هي تبتسم لأنها ستشعر هذا المساء بذات الراحة التي كانت تستحضرها خلال رحلتها القصيرة في المصعد...

دلفت مكتبها و كلها حماس لإستكمال ما ينقص من عملها... وضعت حقيبتها في المكان المخصص لها... نزعت معطفها الأسود المصنوع من قماش الكشمير... شغّلت التدفئة المركزية الملحقة بالمكتب و إنشغلت تدقق تصاميم ديكور الحضانة تعدّل ما يجب تعديله... تضيف بعض الألوان هنا و هناك... تغيّر بعض الزوايا.... إنغمست كليا في عملها محاولة تفادي الهواجس التي تطاردها... جعلها العمل تغض البصر عن شبح أمها الذي يلوح بين ناظريها في كل جزء من الثانية... كلما إشتد ضيق صدرها تذكرت أمرين: أولهما والدها الحبيب الذي بذل حياته و مازال من أجل سعادتها... و ثانيهما نصائح "عمر" الذي علمها أن تحول كل طاقة سلبية إلى طاقات إيجابية تجعلها تمشي قدما في سبيل التخلص من الشوائب العالقة في قلبها و روحها و ذهنها جراء هجران أمها لها... تلك التي لا تعلم في الحقيقة حتى إذا ما كان يحق لها فعلا منادتها "أمي"...
لا تعمل "كايا" في العادة وحيدة... بل تشاركها العمل

و المكتب صديقتها "آسيا"... صديقة الطفولة و رفيقة الدرب... تلك التي لا تكاد تغيب حتى تشتاقها... إنها تلك التي تؤنس وحدتها في هذا العالم البليد... تلك التي تواسيها و تستمع إلى تراهاتها و تسحبها من خواء الروح إلى ساحة الطمأنينة و السكينة... لكن صديقتها منهمكة منذ ما يقارب الشهر و نصف الشهر في آخر تحضيرات حفل زفافها.... ستتزوج "آسيا" بالرجل الذي إختاره عقلها فهي على عكس "كايا"... لا تؤمن بالحب إطلاقا... بل تعتبر أن ذاك الشيء الذي إصطلحت عليه البشرية بعبارة "حب " ليس سوى إنعكاسا لإحتياجات بيولوجية و تقلبات هرمونية صرفة.... و ربما يكون الإيمان بالحب من عدمه هو نقطة الخلاف الوحيدة بين الصديقتين.... إذ لطالما إنتقدت "آسيا" أمنيات "كايا" الحالمة و دعتها إلى تثبيت قدميها على أرض الواقع... فهي لم تستصغ يوما رؤية رفيقتها للحب... فالحب في نظر تلك الفتاة قادم لا محالة من عالم الأساطير... فهي تحلم بحب أزلي شأن حب أوديسيوس الإغريقي لزوجته بينلوبي...ذاك الحب الذي لم يأفل أمام متاعب و صعاب رحلة العشرين عاما التي إستغرقها البطل في طريق العودة إلى مملكته بمدينة إيثيكا... تحلم "كايا" بحب كحب أوديسيوس لزوجته...حب صمد أمام إمتحانات الحياة و لعنات الجبابرة "زيوس" و "بوسيدون"... يبدو أن ميلها إلى الثقافة الإغريقية ليس غريبا... أو ليست أمها يونانية؟...

لقد أمضت المسكينة سنوات و سنوات و هي تقرأ عن الإغريق و عن أثينا و أساطيرها و علومها و فلسفاتها ظنا منها أن أمها ستفرح بإهتمامها بثقافة بلدها حين عودتها و لكن أمها لم تعد....

ها أنها تدور مجددا في فلك الفقد و الشعور بالنقص... عليها أن تتجاوز الأمر و هذا ما لن يتم إلا بمواجهة أمها... فهي الوحيدة التي تملك أجوبة على جميع أسئلتها... تركت ما تبقى بين يديها من عمل و توجهت إلى جهاز الحاسوب... ها قد أصبحت متصلة بشبكة الإنترنت و سرعان ما بدأت البحث عن مواقع إلكترونية و منتديات لتعليم اللغة اليونانية... عثرت على أحدها

و بدى لها مناسبا جدا لها بما أنه موجه للمبتدئين... دخلت إلى صفحة الإستقبال و بدأت تتبع مراحل التسجيل في المنتدى بالإجابة على بعض الأسئلة من قبيل " لماذا تزور هذا المنتدى ؟ ... ما هي الأسباب التي دفعتك لتعلم اللغة اليونانية؟..."...

إنتهت من الإجابة على كل الأسئلة و حان وقت التسجيل و كان عليها أن تختار بين ذكر إسمها الحقيقي و بين إختيار إسم مستعار... سرعان ما حسمت أمرها و سجلت حضورها في المنتدى بإسم
" بينلوبي"... إنتابتها سعادة غامرة لا علم لها بأسبابها أو مصدرها....



رواية منال عبد الوهاب الأخضر - رسمة شاكر عكروتي

chaker-akrouti
شيزوفرينيا #2