Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

ركين #1

childhood-emotionsManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر

مذ كانت صغيرة، تردّد على مسامعها أنّها من أصل أرستقراطي... ليس الريف موطنها و لا ناسه أهلها... لكن القدر شاء أن يتزوّج والدها الغني من والدتها إبنة الفلاح المتواضع... والدتها التي إنقطعت عن دراستها الجامعية و ضحّت بأحلامها مقابل الظفر بحب حياتها و الإقتران برجل كانت تفصل بينها و بينه أشواط و أشواط... فمكانتهما الإجتماعية كانت مختلفة حدّ الشطط...

حارب والداها كي يخرج حبّهما من عتمة عاهات المجتمع و تقاليده الغبيّة إلى النور... لقد إعتادت، منذ نعومة أظافرها، رؤية والدتها دامعة العينين... والدتها... تلك الأرملة الشابة التي تنكّر لها أهل زوجها بعد وفاته فما كان منها إلاّ أن حملت رضيعتها  التي لم تتجاوز حينها الثلاثة أشهر من عمرها و عادت إلى منطقتها الريفية و هي تجرّ أذيال الخيبة...

كانت ترى الحزن في نظرات أمّها و إبتسامتها الخجولة... و لكنّها كانت ترى أيضا أنّ الحزن لم يكسرها... ربّما أهدر شبابها و أحالها إلى عجوز في الثلاثين من عمرها و لكنّه لم يكسرها... كبرت على صوت آلة الخزف و ورائحة الطين الذي كانت أمّها تبرع في تحويله من مادّة مرنة إلى تحف فنيّة تقتات و صغيرتها من ثمنها... ترعرت و في بالها حلم واحد... أم تصبح خزّافة مثل أمّها... كانت تحلم أن يتردّد إسمها " ركين" _ الخزّافة في أهم معارض الخزف العالميّة... ليس  الخزف مجرّد حرفة بالنسبة إليها... فبفضله لم ترضخ أمّها لإبتزاز شقيقها... ذاك الذي من المفترض أن تناديه " ركين"  _خالي_.. لكنّه كان شخصا سيّئا... كان يبتزّ أمّها.... ساومها على حمايتها مقابل تنازلها على حقّها في الميراث...

لقد ترسّخت في ذهنها صورة مخزية عن هذا الخال لا يمكن أن تُمحى أبدا من ذاكرتها... مهما تغيّرت الظروف و تبدّل الزمن... صورتها و هيّ تحتمي بأمّها متشبّثة بتلابيب ثوبها إنزعاجا... بل خوفا من صراخ خالها... ذاك الرجل الضخم، قاسي القلب، صلب الملامح، متحجّر الفؤاد... حتّى أنّ وجهه كان خاليا من الإنفعالات... إلاّ من إنفعال واحد مقيت... يرعب كلّ من يلمحه... تذكّر جيّدا أنّه أتاهما في ثورة من الغضب مطالبا أمّها بأن ترحل عن المنزل... منزل جدّها... و أن تأخذ صغيرتها البالغة من العمر خمس سنوات و تغادر المنطقة برمّتها و أن تبيع خزفها بعيدا عنه... فعملها في صنع الخزف الفخاري و بيعه يُعدّ وصمة عار على رجولته التي تُبيح له أن يحوّل حياة أخته الوحيدة إلى جحيم.... فقط لأنّ القدر حوّلها إلى أرملة و هي لم تزل بعد في مقتبل العمر... كان ينكر عليها حقّها في أن تؤمن لنفسها و لطفلتها حياة كريمة... كانت " ركين"  تكره ذاك الرجل كرها جمّا... حتى أنّه كان يداهم أحلامها ليلا و يحوّلها إلى كوابيس...

كانت تراه في منامها ممسكا بها يكلّ ما أوتي من جبروت ووحشيّة محاولا إزهاق روحها دون شفقة أو رحمة... كانت تستيقظ من كابوسها، كلّ ليلة، على دفء صوت أمّها و هي تضمّها إلى صدرها و تهدّئ من روعها... لقد كانت أمّها درعا منيعا بالنسبة لها... لكنّ روحها_ حديثة العهد بالحياة_ تتألّم من رؤية الألم البادي على ملاموالدتها التي، رغم كلّ ما أصابها، حافظت على رباطة جأشها... فكانت إبنتها تراها أقوى نساء العالم و أكثرهنّ صلابة... لقد حدّثتها، ذات مساء، و هما تجلسان في فناء المنزل تتأمّلان سواد الليل الجميل... بنجومه الأنيقة، أنّها سمّتها " ركين" حتى يمنحها الله عقلا راجحا و حكمة بيّنة تساعدها على بناء كيانها و الحفاظ عليه في مجتمع ذكوري... أناني... لا يرى في المرأة إلا جسدا و لا يقيس أخلاقيتها إلاّ بثيابها و غشاء البكارة... لقد راهنت والدتها على أن تزرع في نفسها حبّ الثورة و التمرّد على واقع تحرم فيه الأنثى من أبسط حقوقها... فقط لأنّها أنثى...

كانت تستيقظ كلّ صباح على أنغام ماجدة الرومي و هي تردّد بصوتها الشجي " خلقت طليقا كطيف النسيم و حرّا كنور الضحى في سماه..."... هكذا أمضت طفولتها في غياب أب يحميها... يحتويها و يُبعد عنها الأذى... لكنّها ترعرعت في حضرة أمّ ليست ككلّ الأمّهات... إمرأة ليست ككلّ النساء... إمرأة إعتادت أن تحوّل ضعفها إلى قوّة... كانت تبكي شوقا لوالدها الذي لم تر وجهه لأنّ الموت غيّبه قبل ولادتها بأيّام...

لكنّها كانت تواسي نفسها بوجود أمّها التي بذلت حياة بأسرها من أجل صغيرتها... كرّست نفسها في سبيل إسعادها إلى أن داهمها المرض على حين غِرّة... فإنهارت أمّها القويّة... شديدة البأس...  ذاك الجسد الجميل... ذاك القوام الممشوق أوهنه المرض و أضنته آلام الحياة.. تلك القامة، التي ما حُنيت يوما، أحناها المرض...لقد كانت في الرابعة عشرة من عمرها حين إختطف الموت أمّها... أمّها التي كانت رفيقة دربها و سندها الوحيد فأصبحت " ركين" يتيمة بأتمّ ما للكلمة من معنى... لقد جعلها موت والدتها تدرك المعنى الحقيقي للفقد... لقد كانت أمّها تمثّل العالم بأسره في نظرها... كانت ضحكتها تختزل الحياة بالنسبة لها... لقد كان تاريخ الخامس عشر من كانون الثاني أسوء تواريخ حياتها... كان ذلك اليوم و سيبقى أبشع أيام حياتها... فقد سجّل فيه القدر أفضع جرائمه في حقّها... حرمها والدتها... مثّل ذلك اليوم خيبة أولى تتالت وراءها خيبات و خيبات...

فجأة وجدت نفسها وحيدة و ما من مكان يأويها سوى منزل ذلك الرجل الذي تكرهه... ذاك الذي يدعى خالها... ذاك الرجل الذي كانت ترى في عينيه شررا يقدح نارا يشعرها أنّه يُضمر في نفسه نيّة الإنتقام من والدتها من خلالها.. و لكن لم يكن أمامها غيره خاصّة في مجتمع معاق... يعيق كلّ من تنتمي إليه من النساء... لقد كان ذاك التاريخ الأبشع في حياتها إلى أن حوّلته الصدفة إلى أهمّ تاريخ في حياتها... تاريخ سيغيّر حياتها تماما... فهيّ تشارك اليوم... في الخامس عشر من كانون الثاني.... بعد عشر سنوات من وفاة أمّها... في أهمّ معرض عالمي لفنّ الخزف... في مدينة مكسيكو... أجل... لقد تحقّق حلمها و تردّد إسم ركين الخزّافة في أكبر المعارض العالمية... ركين... حكاية ألم و أمل... حكاية إنكسار و ثورة... حكاية إبداع وُلد من رحم المعاناة... ركين... حكاية فتاة تمرّدت على العالم برمّته... تفوّقت على نفسها و صنعت مجدها.... هذه هي ركين.... 



منال عبد الوهاب الأخضر

Saveركين #1