هل تحبّه وهل أحبّته؟
سنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi
نظر حوله كأنه يرى مكتبه لأوّل مرة، جدرانه بيضاء عليها لوحات تمثل مشاهد من الحياة التونسية العتيقة، لديه نافذة تطل على البحيرة لأوّل مرّة ينتبه لها حقا، في الجدار المقابل مكتبة تمتلأ رفوفها بكتب المحاسبة والمجلات القانونية ما ظن يوما أنه ستكون له مثل هذه الكتبة اللتي لا تشبه شيئا فيه. مكتبه كبير الحجم من الطراز العتيق، لونه بني متشح في أطرافه برسوم ذهبيّة. أمامه مقعدان وثيران من الطراز نفسه وفي الجانب المقابل صالون وثير من الطراز الفرنسي العتيق لاستقبال الحرفاء ذوي الأهميّة.
فتح الملف ونظر داخله طالعته عيناها، كم هي جميلة حتى في الصورة، لعينيها سحر وجاذبية وحرارة مربكة. قرأ قائمة الإستعلامات: مريم الشريف، مهندسة معماريّة، خمسة وثلاثون سنة، متزوجة من طبيب متخصص في أمراض القلب والشرايين عماد بن سليمان، تسكن بالمرسى الكورنيش، مكتبها بالمرسى المدينة، لديها بنتين، ناشطة في عدد من الجمعيّات، درست بسيدي بوسعيد في المدرسة الوطنية للمهندسين المعماريّين.
هاهي إذن في بضع أسطر، يعرف عنها كل شيئ، ولا يعرف عنها شيئا عدى أنها في انتظار هزيمتها، لقد انهزم بها وفيها منذ ان نظر إليها. كلماتها حرّكت قلبه وأحاسيسه، فتحت شهيّته للحب والمغامرة والسفر، لابد وأن يراها، لابد وأن تتقاطع طريقهما رغما عن القدر. أفاق على صوت باب مكتبه يفتح، هاهو شريكه سي محمد علي زروق، في الخمسين من العمر، طويل القامة، نحيف البنية، أبيض البشرة، عينيه خضراوين، شعره بني فاتح دب فيه الشيب وتساقط اغلبه تاركا صلعة ناصعة البياض. ينبعث منه عطر غالي الثمن وصقيع يذكره بالقطب المتجمد الجنوبي. ليته لم يأتي ليجادله حول مصاريف المكتب، لا وقت لديه لسماع مآخذاته، ما الأمر لابد وأنّ محمد علي قد ربح صفقة هامة لتعلو وجهه هذه الابتسامة المشرقة اللي تذكره ببياض المحيطات المتجمّدة.
- صباح الخير معز، عندي لك خبر رائع.
- صباح الخير محمد علي، هل فزت بصفقة حسابات البنك القومي للتعمير؟
- لا.. بل فزت بصفقة كل المجمع، البنك، شركة التامين، شركة الإيجار المالي والشركات الأخرى ذات رأس المال المتغيّر، أنت أحسن شريك، هل تعلم؟
ضحكت منه في سرّي، الآن أصبحت أحسن شريك، لابد وأن الفواتير وكشف المرتبات لم يصلان مكتبه بعد. اجبته متغابيا:
- أنا سعيد أيضا يالصفقة الجديدة، أترك لك الأمور التقنية واترك لي أنا الصفقات الجديدة القادمة.
- أنت دائما هكذا، تترك لي كل العمل وتقتسم معي الأرباح.
احمّر وجه شريكه، كعادته كلّما انفعل قليلا، أصبح يعرفه الآن لابد وأنه سيطالبه بشيئ ما. اليوم بالذات يريد ان يخلو بنفسه ليفكّر، لا يريد أي نقاش عقيم لذلك قرر ان يكون لطيفا هذه المرّة فقط لأجلها.
- محمد علي ماذا تريد، حصة إضافية من الأرباح، هل لديك مشروع جديد تريد مني أن أشاركك فيه، هل تريد ان تطرد أحدا ما؟
- معز، يا شريكي العزيز، انت أفضل من يفهمني، الشركات المصادرة التي عيّنت عليها متصرفا قضائيا، أريد إحداها.
- ليس الوقت مناسبا الآن، اتركني أتصرف.
- كالعادة نحن شريكين بالنصف في كل شيئ.
- نعم كالعادة.
خرج شريكه من المكتب تعلو وجهه ابتسامة من فرغ للتو من التهام فريسة، لا طالما تساءل عمّا يفعله بكل هذه النقود التي ما فتئ يجمعها، ثروته هائلة لكنه لا زال يركب سيارة صغيرة وينتعل بدلا بسيطة، وحده منزله بل عفوا قصره يشي بثراءه الفاحش.
كيف سيقابلها، وماذا سيقول لها، ماذا سيقول لإمرأة بهذا القدر من الاستثنائية؟ هل يترك الأمور للقدر كما قالت؟ شيء فيه يشتاقها، يريدها، يحتاجها. شيئ فيه يريد ان يتعلّق باطراف ثوبها كطفل صغير، شيئ فيه يريد ان يحتضنها، يدفن رأسه في صدرها ويبكي.
اجتاحته الحيرة، ماذا يفعل، قرر ترك الأمر للقدر كما قالت. خرج من مكتبه، صعد في سيارته واتتجه لمنزله بالمنزه. إنه منتصف النهار لابد وان ملاك، زوجته العزيزة، قد عادت من عملها، ثرثرتها ستريحه من نفسه قليلا، إنها تعمل مديرة تجارية بنزل. لا يدري لماذا وافق على ان تعمل رغم أنها لا تحتاج شيئا. لكنّها أصرّت منذ سنتين على أن تحقق ذاتها كما قالت. سخر منها في قرارة نفسه حينها وقبل ان تعمل على مضض. في الأشهر الأولى كادت ان تستقيل ولقد راهن على ذلك طويلا ولكنها استمرت رغم ذلك.
تذّكر ملاك عندما تعرّف عليها لأوّل مرّة، كانت لا تزال طالبة في الجامعة تدرس التسويق، عامها جاءت لتقوم بتربص في المكتب الذي كان يشغل فيه خطّة خبير محاسب تحت التمرين. في تلك السنة تنافس كل الرجال في المكتب على كسب ودّها، فمن حينها كانت ولا تزال جميلة جدّا، لكنه وحده من فاز بها. هل حدث وأن أحبّها؟ قطعا لا وقطعا نعم ولكن هل ان كل حب هو الحب؟
إنه يحب جمالها، هدوءها، وطاعتها له ربّما هي من أحبّته فعلا، ولكن علاقتهما كانت دائما من النوع العادي، لا امواج فيها ولا عواصف ولا انواء. علاقتهما كالجدول الوديع تنساب مع السنين. لا شيء استثنائي فيها. حتى عندما يحتضنها بين ذراعيه. اوّل الأمر بهره جمالها ورقتها ولكنها لم تحرق فيه شيئا يوما. قبلاتها وديعة كقبلات أخوية، لمساتها حانية كلمسات ام وفراشهما كان دائما فراش صديقين حميمين. إنّه يعلم الآن ان تلك الشعلة كانت تنقصهما دوما وتذكر قصيدة لنزار قباني تقول:
"إني لا أؤمن في حبٍ..
لا يحمل نزق الثوار..
لا يكسر كل الأسوار
لا يضرب مثل الإعصار..
آهٍ.. لو حبك يبلعني
يقلعني.. مثل الإعصار.."
دلف إلى المطبخ وجد ملاك جالسة في انتظاره، على غير عادتها كانت غارقة في تفكير عميق. انتبه فجأة إلى أنّها قد غيّرت لون شعرها من الذهبي إلى الأحمر، صعق كأنّه يراها لأول مرّة، بل إ نّه يراها لأوّل مرّة، سألها:
- ملاك، هل هذه انت؟
- هذه انا ولست انا، أحسست بالملل واقترح علي حلاقي ان يغيّر شكلي، اللون الأحمر جميل ولكنه لا يناسبني، أحس وكانّني امرأة أخرى.
- في الحقيقة اللون يناسبك كثيرا وأنا اعجبني هذا التغيير.
- سأفكّر في الأمر، أنا انتظرك لنتغدى معا.
واصلت ملاك ثرثرتها حول النزل ورئيسها والموسم السياحي، استمع إليها بنصف أذن وبلا عقل. إنّ صورتها تسكنني، كلماتها ترن في داخلي، وإنّني احتاجها. نظرت إليّ ملاك وقالت:
- معز كالعادة أنت لا تستمع إلاّ إلى نفسك، أحدثّك منذ ساعة ولا تشاركني.
- حسنا انا مشغول بالعمل.
- كالعادة تظن ان مشاغلك وحدها هي الهامة أما رأيي ومشاكلي فلا أهميّة لهما عندك.
تركتها وخرجت راجعا للمكتب، علني "أراها او أرى من يراها" كما قال الشاعر.
-2-
منذ اليوم الأوّل الذي رأته فيه أحبّته من اوّل نظرة، كان لا يزال خبيرا محاسبا في اوّل الطريق، أصبح اليوم رجل اعمال كبير، لا تنكر وأنّه دلّللها، منذ ان بدأت ثروته تكبر لم يحدث وأن حرمها من شيئ. أحبّته على طريقتها، هي تعلم أنها بسيطة في احلامها وطموحاتها. لم تكن يوما تشبهه، ليست لها تلك الرغبة المجنونة والملتهبة في النجاح.
لطالما عشقت الهدوء والضحك، تكره الخصومات والجدل والمشاكل، لا تتصور نفسها تعيش ضغطه العصبي ولا حالة التوتر التي لا تلازمه كلّما بدأ مشروعا جديدا. ما الحياة إن لم نستمتع بها، لا تفهم لماذا يصر على أسئلته عن الحياة والموت والقدر وعن الإرادة الإلاهيّة.
لطالما كانت الأمور بسيطة بالنسبة لها، هدفها في الحياة ان تكون لها نقود لتصرفها، ثياب جميلة لتلبسها وأن تحضر كل الحفلات العامة والخاصة وعندما يتقدم بها العمر ستسافر للبقاع المقدسة لأداء مناسك الحج وستتبع طريق الله. الحياة تفاحة حمراء جميلة يكفي ان تقضمها بشهيّة دون أن تتساءل عن مصدر التفاحة.
منذ سنتين بدأت تحس بالملل يتسلل إليها، لم يعد معز رجل احلامها يتحدث دوما عن المرارة والهزيمة والخيبة وهي لا تفهم لماذا، لديه كل شيئ. حدث وأن تساءلت هل تحبّه وهل أحبّته؟ أحبّته نعم، ولكن الآن حقا لا تدري. أحيانا تحس بعرفان الجميل تجاهه لأنّه لا يلمسها، يكتفي فقط بتقبيلها وأحيانا يمسح على شعرها وينام. اكتشفت فجأة أن معز لم يعد يعنيها، لطالما كان غريبا عنها ولم تستطع ان تفهمه حقّا.
لكنها تخاف الحياة دونه، تريد ان تتركه وأن تعيش حياة اخرى، تريد رجلا متصالحا مع نفسه، لا اسئلة له، هو رجل نقاط الاستفهام وهي امرأة تحب النقط والفواصل لا غير. حدث وان فكرت في ان تطلقه ولكن كلام الناس وخوفها من نظرات الآخرين جعلها تعدل عن الفكرة. إنّها اليوم تنظر له كصديق تجمعها به عشرة طويلة لا غير فمن انّى لها الشجاعة لتواجهه بالأمر. إنها تخاف نوبات غضبه البارد التي تجعلها ترتجف، إنها تخافه ولم يحدث وان عارضته او واجهته يوما. تعتمد عليه في كل شؤونها وفي شؤون البيت والأولاد فبدونه لا تستطيع ان تتصرّف في شيئ.
أحسّت بالقهر من عجزها وضعفها، حقدت على والديها الذين لم يجعلاها تحتاج يوما أن تعوّل على نفسها. إنها الابنة الوحيدة المدللة لوالدين أنجباها عن يأس وفي سن متقدمة ولذلك كانت قرّة عينيهما. رحمهما الله على كل حال، تذكرت بان عليها ان تذكر حسنات الموتى. لطالما عاشت كأميرة صغيرة في "قصر مرصود"، معز لم يفعل شيئا سوى ان واصل ما كان يفعله والدها. تذكرت ايضا انها بفضله تتربع اليوم على ثروة صغيرة، تجعلها في مأمن من الحاجة فمعز هو من فكر في تحويل الفيلا التي ورثتها عن والديها بالمنزه الأوّل إلى عمارتين تدران عليها دخلا محترما، وهو أيضا من اشترى لها باموال العمارتين منازل اخرى صغيرة قام بكراءها أيضا.
معز هو من يدير كل ثروتها فماذا ستفعل بدونه، قال لها مرّة أنت طفلتي الثالثة التي لم انجبها، سعدت لكلامه يومها ولكن الكلام يألمها الآن لأنها لن تكبر وتكون امرأة في عينيه أبدا ولكن هل يعنيها ان ينظر لها كامرأة؟ لا تدري حقا، ملّت من الحياة معه، لا يحب الخروج، لا يحب التسوق، لا يتابع الموضة، لا يحب المسلسلات، حتى عندما يحدث ويسافران معا يطوف بها في المكتبات والمتاحف والمعالم الأثرية حتى تكاد تختنق من الملل.
حتى عندما يتحدثان، لا يثيره سوى الحديث عن السياسة او عن الكتب وإن لم تكن تختار له ملابسه لكان مازال في موضة القرن الفارط. بعد أكثر من خمسة عشر سنة من الزواج اكتشفت أن لا شيئ يجمعهما فعلا، لقد سارا دائما كخطيين متوازيين ولم ولن يتقاطعا. لابد وان تتحدّث معه في قادم الأيّام، ستستجمع شجاعتها وتفعل، قطعا ستحادثه.
Website Design Brisbane