والتقينا... برشوة للقدر

femme-mariee-seuleسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


-1-

الساعة السابعة والنصف، مزاجها يميل نحو الأسوأ، لا رغبة لها اليوم في العمل ، كل الأفكار الصباحية الجميلة ذهبت أدراج الملل. تحس بالاختناق، فأين ستذهب في هذا الصباح. تذكرت عادة قديمة لديها، ستحمل كتابا وتستنجد بالبحر، وعلى أي حال ستكون المقاهي المنتشرة في المرسى مقفرة، لازال الوقت مبكرا ستشرب قهوة أخرى في المرسى الشاطئ وتعود أدراجها للكورنيش لحمل سارة وسرور للمدرسة.

قررت السير على الأقدام، إنها تحب المشيئ صباحا عندما تكون الطرقات مقفرة والهواء رطبا، تسرح بعيدا مع خيالها وترى نفسها في كل بلدان العالم. ماذا لو دخنت سيجارة أيضا؟ وما الضرر سيجارة واحدة فقط، لن يصيبها السرطان من بضع سجائر في اليوم؟ كل هذا بسبب عماد وووعظه وارشاده حول ضرورة ممارسة الرياضة واتباع ريجيم والاقلاع عن التدخين والسهر والانفعال.

إنها فقط في الخامسة والثلاثين وعماد يجعلها تحس أنها في الثمانين "مريومة، الوقاية خير من العلاج" "لا تأكلي الشكلاطة السوداء ستصابين بالإدمان" "لا تشربي القهوة ترفع الضغط" "لا تدخني، يوما ما ستصابين بالسرطان" كل جمله تبدأ بعبارة لا، يعشق هذه الكلمة ولكنه لن يلغيها حتى وإن قضى حياته معها في قول لا.

رمت بلاءات عماد الناهية وراءها حملت كتابها المفضل واتجهت إلى المقهى سيرا على الأقدام لابد وأن الحرب الصباحية الأولى قد اندلعت الآن بين المعينة وعماد وسارة وسرور،ابتسمت رغما عنها وأحست بان بامكانها ان تكون حرة لو ارادت.

هاهي المقهى في مرسى الشاطئ لا زبائن فيها في هذه الساعة، فتحت باب المقهى ودلفت للداخل، بحثت عن طاولتها الواقعة قبالة البحر، عرفها النادل  فجاءها مسرعا، "صباح الخير سيدتي، طاولتك مشغولة اليوم ولكن سأضع لك طاولة اخرى قرب مكانك المعتاد، آسف جدا في المرة القادمة فقط هاتفيني وسأحجزها، هل آتيك بشكولاطة ساخنة دون سكر كالعادة؟"
"نعم شكرا لك".

نظرت إلى طاولتها، رأت لونا أسودا يتوسد كتابا يقرأ ولا يقرأ، من حين لآخر ينظر إلى البحر ويسافر يعيدا. غريب امر هذا الرجل فهذه المقهى لا يرتادها أمثاله عادة، بدلته انيقة، مفتاح سيارته من النوع الفاخر فما الذي يفعله في مقهى كهذا في هذه الساعة ومعه ايضا كتاب؟

رفعت شعرها عن وجهها وجلست في الطاولة المجانبة له، رغما عنها اتجهت نظراتها لطاولتها، البحر يقابلها ولكن المنظر من هناك أجمل، فتحت حقيبتها وأخرجت علبة سجائرها، أشعلت سيجارة وفتحت كتابها.

"الحب هو كل الذي حدث بيننا والأدب هو كل الذي لم يحدث"، رفعت رأسها عن الكتاب ونظرت حولها، قال صاحب البدلة السوداء الأنيقة:"إنها الجملة الأولى التي يبدأ بها كتابنا، انا احمل نفس النسخة".

نظرت إليه، ونظرت لكتابه "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، أي صدفة هذه؟

-    قالت: "ما اجمل الذي حدث بيننا ما اجمل الذي لم يحدث ما أجمل الذي لن يحدث"

-    أنا أعشق هذه الكاتبة، قرأت كتابها أكثر من مرة رغم أنه لا وقت لي عادة للقراءة.

-    أنا ايضا أحبها، قرأت كل كتبها مرات عديدة.

-    قال : تعجبني طريقتها في وصف الأشياء، لكل ابطالها انتصارات وهزائم ولكنهم لا يواصلون رحلتهم حد العذاب، حد الموت، حد نهاية ما قد تأتي وقد لا تأتي.

-    أجابته: الحياة سلسلة من الانتصارات والهزائم،  وحدهم من يعيشون وفق منطق الغنيمة لا هزائم لهم، ولكن كل انسان جدير بصفة الانسانية ولابد وان يهزم في مكان ما من نفسه، إنها
لعبة القدر معنا سيدي، تغرينا انتصاراتنا الصغيرة فننجرف للحياة  حتى تأتي هزيمتنا الكبرى في الوقت الذي كدنا ننسى فيه ان في كل انتصار نحققة هزيمة ما لشيئ داخلنا قد نخسره في
لحظة ما بين قدر وقدر . ولولا هزائمنا وحزننا لما كان الخلق.

-    من أنت؟

ضحكت واجابت:" انا من اولئك الذين يحملون ما يظنونها انتصارتهم على صدورهم وساما في انتظار هزيمتهم الكبرى"

-    حقا من انت؟ ولماذا نتتطابق فى كتاب نقرأه ولون نحمله معا؟

-    قدّم رشوة للقدر قد يجيبك.

-    لا أظن سيدتي أنني بارع في رشوة القدر، كوني من يأخذ بيدي ولن اخذلك.

ضحكت مجددا وقالت"اخترت العنوان الأسوأ، فلا معرفة لي بالقدر، انا مثلك في رحلة من البحث عن ماهية الحياة والموت وقد أخيّب ظنّك."

-    ان أعرف إنك لن تخيبي ظنّي، أنا أقرأك، أكاد اتعرف إلى ملامحك،  فقط ما اسمك؟

-    هل أسماءنا تشبهنا أم نحن من نشبه أسماءنا؟

-    كلما سالتك سؤالا أجبتني بسؤال ؟ فوحدهم الفلافسة من يقضون حياتهم تحت نقاط الاستفهام.

-    لست فيلسوفة بل انت الذي تطرح الأسئلة الخطأ.

فهمت إشارتها لكتاب آخر للكاتبة نفسها حول الأسئلة الغبية التي يطرحها الآخرون. أعحبتني لعبة الأسئلة والأجوبة معها وتقمصت دور بطل ذلك الكتاب وقلت "ماهو الإسم الذين اردت ان تحملي؟"

ابتسمت عن ذهول، لقد فاجأتها فرجل مثلي لا يقرأ مثل هذه الكتب عادة وقالت:

-    تذهلني، لابد وأنك تحفظها عن ظهر قلب.

-    هو كذلك سيدتي، فنحن لا نحفظ كلمات في كتاب بقدر ما نسترجع احساسا داخلنا عبّر عنه الكاتب على لساننا. معزبلقاضي في خدمتك سيدتي الجميلة،

-    مريم الشريف بن سليمان، في خدمتك ايضا.

-    تشرفنا، هل انت من مرتادي هذا المقهى؟

-    نعم والطاولة التي تحتلها طاولتي عادة.

-    هل أستعير منك سيجارة لقد أقلعت عن التدخين ولكن تنتابني أحياني رغبة ملحة واستسلم لها، أحب دخان السجائر  خاصة عندما اقرا كتابا وأشرب قهوة على البحر.

-    أنا أيضا أحاول ان لا أدخن أكثر من ثلاث سجائر في اليوم، إن حالة الخلق عندي تمر حتما عبر دخان السجائر، كذلك حالة القلق والفرح والحزن والنشوة، تلازم السجائر كل حالاتي النفسيّة والجويّة.

-    لكم نتطابق أنا أيضا أحب السجائر وأقلعت عنها فقط عن عذاب، أحسست إنها تستعبدني وتهزمني، لذلك قررت ان لا أدخن. ولكن احيانا استسلم لها عن طواعية فانا لا أحب أن أكون سجينا لأي عادة كانت وإن أحببتها.

نظرت إلى ساعتها إنها الثامنة، لابد وأن تعود أدراجها للمنزل عليها الذهاب للعمل واصطحاب بنتيها للمدرسة.

-    عفوا معز، تشرفت بمعرفتك وبتجاذب أطراف الحديث معك ولكن لابد ان اذهب، يوما ما أراك هنا.

-    مريم هل لي برقم هاتفك؟ أعجبني ان نتجاذب اطراف كتاب. فقط من حين لآخر نشرب قهوة معا ونتحدث.

-    أترك لقائنا القادم من تدبير القدر، فلو كان لنا قصة ما ستلتقي.

أخذت حقيبة يدها وخرجت من المقهى، اي امراة صادف هذا الصباح؟ لازال يتذكر نضارتها، شعرها، فستانها الأسود وكلماتها. احس فجأة أنه يعرفها منذ زمن طويل، كلماتها تشبه كلمات ذلك الفتى الساكن داخله. اجابت عن أسئلته كلّها، تكلّمت على لسانه وقالت مايفكر فيه.

إنّها جميلة جدّا، وأجمل حين تتكلم، لابد وإنها في الثلاثين على الأرجح ولكن جملها جمل من خبر الحياة وهزائمها، لماذا لم يركض لاهثا وراءها، لماذا لم ينتزع منها رقما او عنوانا أو أي شيئ يدله عليها. مريم الشريف بن سليمان، إنها تحمل لقبين لابد وإنها متزوجة، لم ينتبه لأصابعها، لم يكفه الوقت إلّا لينظر فقط إلى عينيها اللذين كان يشربان روحه وعقله وقلبه.

اشتاقها هكذا، بدون مقدمات اشتاقها، إنها ككتاب جميل قرأ منه بعض سطور  ويتحرّق شوقا لإكماله. كلماتها مسّت شيئا فيه ظنّه مات منذ زمن، مريم اسمها جميل على اسم السيدة العذراء ولها بعض معجزاتها ايضا، لقد أحييت فيه شيئا ميّتا. لم تكن له يوما ثقة في القدر لذلك قرّر أنه سيجدها، لديه اسمها وسيعثر عليها.

عادت أدراجها إلى المنزل، وجدت عماد قد خرج للعمل وحمل معه سارة وسرور، عرف أنّه أغضبها وكالعادة سيحاول إرضاءها، حملت هاتفها الجوّال ومفاتيح السيارة وذهبت للعمل. في طريقها لمكتبها، فتحت المذياع، طالعتها نشرة الأخبار، اعتصام على الطريق الوطنية الرابطة بين سوسة وجمّال، اضراب في مصنع الإسمنت، وقفة احتجاجية في مستشفى، تكذيب من وزير حقوق الإنسان عن وجود حالات تعذيب، بلاغ حول الأسعار من وزارة التجارة. غيّرت الإذاعة، منذ 14 جانفي 2011 وهذه الأخبار خبزها اليومي، ملت من نشرات الكوارث ومن المشاحنات السياسية التي تتفنن كل المحطات التلفزية في بثها والمزايدة عليها.

لم يخطر ببالها يوما إن الثورة ستقود البلاد إلى الحالة التي عليها اليوم وتذكرت مقولة لأحد الحكماء تقول "إن الثورة يفكر بها العقلاء ويقوم بها الشجعان ويجنى ثمارها الأوغاد"، الكل جنى ثمار الثورة وحدهم الذين قاموا بها واستشهدوا من أجلها لم يرو من ثمارها شيئا.

نفضت عنها مرارتها وفضلت سماع أغنية، أي أغنية هي أغنية هذا الصباح، معز بلقاضي هذا الإسم مألوف لديها. لابد وأنها تعرفه، أعحبتها كلماته، لأول مرّة منذ سنوات تكلمت لغتها دون الحاجة لمعجم، فمع عماد تحتاج دائما أن تفسر وتشرح لأنه لا يستطيع فهم جملها التي تشبه الكلمات المتقاطعة على حد تعبيره.

لأوّل مرّة منذ زمن تطابقت في كتاب مع رجل، أي رجل هذا الذي يقود سيارة مرسيدس فاخرة ويطالع كتابا في مقهى مهجور على البحر في السابعة والنصف صباحا؟ كم من متناقضات يحمل داخله هاهي تقرأ فيه ككتاب مفتوح أيضا، أحست بعمق معاناته وحيرته، لا تريد طفلا  آخر يتعلّق بأطراف ثوبها ويبكي على كتفها. إنّها أيضا متعبة ومرهقة وتريد رجلا تبكي على صدره، تتكأ على كتفه، تريد رجلا يحتويها، يحتضنها، رجلا ترى في عينيه كل الدنيا، رجلا تحبّه بكل نبضة دم في قلبها، رجلا تحبّه بقوّة اليأس والخيبة وسنوات العمر الضائعة.

إنّها تعرف في قرارة نفسها أن القدر وضعه في طريقها وتعرف أنّه رغما عنها وعنه سيتقابلان يوما ما في مكان ما وحينها ستكون له ويكون لها بمباركة القمر.


-2-

مر أسبوعان منذ قابلها، أصبح ذلك الموعد الصباحي تاريخه وبداية يوميّته. تعلّق بها من بضع جمل وفواصل وكتاب. منذ أسبوعين وهو يبحث عنها وهاهي أخير. تأمل الملف الموضوع امامه المعنون باسمها، هذه المرّة تجاوز سي بلقاسم نفسه وعلى أي حال فالنقود تصنع المعجزات وتفتح كل الأبواب. وحدهم الأغبياء في هذا البلد يعتقدون أنهم قد قامو بثورة وأن الوضعية تغيرت منذ 14 جانفي. ارتسمت ضحكة ساخرة على شفتيه، هاهو هنا "رمز من رموز الفساد" و"من أزلام النظام البائد" كما يحلو للإعلام أن يدعوهم ومن الذين خدموا العائلة المالكة، لا زال كما هو ربّما اصبح نفوذه أقوى، يستدعونه في كل التلفزات ويدلي برأيه كخبير اقتصادي.

والغريب في الأمر انهم عرضوا عليه وزارة الإقتصاد في وقت ما، أه يا بلدي العزيزة كم أنت حبلى بالمنافقين والقوادين وأصحاب الهمم الرخيصة، وحدهم من ماتوا ومن جاعوا ومن داس عليهم النظام منذ خمسين سنة بقوا في مكانهم لا يتحركون، لم يجنوا شيئا ولن يجنوا فهذه البلاد ليست لهم. لقد كانت دائما بلد الأقليّة الحاكمة أما الآخرون فليحمدوا الله لأن حاكمي هذا البلد سمحوا لهم بالعيش. اليوم باسم الدين، يؤسسون لاستعمار جديد للعقول وللبلد، يؤسسون لعصر جديد من غلق باب الاجتهاد ومن التحجر ومن ثقافة الرأي الواحد والمفهوم الواحد. فهل الله الذي خلق الكون بهذا الجمال، الله الذي خلق المحبّة والنور والسعادة، طلب منّا أن لا نعمل، أن لا نفكّر، أن نستعبد الآخرين؟

الأكثر غرابة ان الحاكمين الجدد القادمين من صناديق الإقتراع ومن مطارات الدول الأروبيّة قد عرضوا عليه مسؤولية حزبية ومنصبا استشاريا برتبة وزير، لم يصدق هاتفه يومها، لم يكن منهم في الجامعة، كان من الشق المعاكس، لم يفهم لماذا اتصلوا به؟ أحد أصدقائه ذوي الأكتاف العريضة والذي منذ الثورة أصبحت له لحية أنيقة قال له :"عماد يا صديقي، وحدهم الأغبياء هم من يرفضون الغنائم التي تأتيهم على طبق، كل دولة تخدمها رجالها، والذكي هو من يكون رجل كل دولة".أي منطق هذا؟ منطق من لا يؤمنون بشيئ ؟ لماذا رفض المنصب؟ ذلك الفتى الذي يسكنه هو من رفض المنصب. وعلى أي حال لا يتصوّر نفسه على رأس وزارة وتحت النقد اللاذع للإعلام، أكثر من ذلك سيبدأون في النبش عن ماضيه وحينها ستسقط أوراق التوت التي طالما اجتهد لإلصاقها.

في الحقيقة، رفض المنصب شكليا، وأخرس صوت ذلك الفتى بان عرض خبرته ومساعدته من وراء الستار، تلك هي السلطة الحقيقية أن تكون لك أصابع خفية ممتدة في كل الميادين وان لا يعرف وجهك أحد. هاهو اليوم يزداد قوة وثراء ونفوذا مع الأيام ولكنه يحس بالملل يطبق عليه. تذكر الملف الذي دفع فيه زجاجة ويسكي باهظة الثمن وخرطوشة سجائر مالبورو  ومصروف جيب للولد لأنه يريد ان يقضي الصيف في الحمّامات هكذا قال سي بلقاسم. "كما تعرف سي عماد فالشهريّة كما هي لا تتحسّن والقرض يلتهم أكثر من نصفها ومصاريف الأولاد تزداد يوما بعد يوم، ولا أدري ماذا أفعل".

وماذا تريد ان تفعل اكثر يا سي بلقاسم، فيكفي ما تفعله وما تلتهمه من اموال المعذبين والفقراء الذين شاءت أقدارهم ان تضعهم في طريقك. في الحقيقة إنّه يحترم سي بلقاسم وامثاله من موظفي الدولة الكبار الذين اختاروا "العمل في صمت". إنهم لم يحدث وان  طالبوا الدولة بشيئ، كل همهم ان يعمروا في كراسيهم أكثر وقت ممكن وهم يقدمون خدمات جليلة للوطن وللمواطنين ولكل من يدفع. والكل يدفع بما فيهم هو.


رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي
والتقينا... برشوة للقدر