"إذا ما جلست طويلا امامي

كمملكة من عبير ومرمر

واغمضت عن طيباتك عيني

وأهملت شكوى القميص المعطر

فلا تنعتيني بموت الشعور

ولا تحسبي ان قلبي تحجر

أحبّك فوق المحبة لكن

دعيني أراك كما اتصوّر"

انساب صوت كاظم الساهر شاديا برائعة نزار "صباحك سكر"، فتحت عينيها على صوت المذياع ككل صباح، الله كم تحب هذه الأغنية، لابد وإنه يوم استثنائي، إنها تعرف ان أغاني كاظم تجلب لها الحظ في الصباح. تمططت بكسل في سريرها، إنها السادسة صباحا، سمعت صوت عماد في غرفة الحمام، لابد وانه يستعد للذهاب للمستشفى كعادته، هل هذا يوم دوامه؟ لديها مزاج غريب للفرح اليوم، تحس وكأن كل الكون يبتسم حتى عماد احست فجأة تجاهه بلفحة من الحنين.

فتحت النافذة على مصراعيها طالعها هواء صباحي بارد، استنشقت رائحة البحر، لا امواج اليوم، البحر هادئ على غير العادة، قررّت ان تشرب قهوتها الصباحية في الشرفة ، لها موعد يومي مع البحر تتأمّل زرقة المياه وانعكاس أشعّة الشمس فوق الماء، تلفح وجهها نسمة رطبة كلمسة حب، يا الله كيف يكون الهواء باردا في شهر جوان؟ جميل هو هذا الصباح يغريها بأكثر من مشروع مجمّع سكني، تزاحمت الرسوم في رأسها، شقق وطوابق وحدائق معلّقة ، حمّى الرسم أصبحت تواعدها كثيرا هذه الأيّام تحس بأنها حبلى بأبيات وقصائد ورسوم جميلة فهل يعود زمن الشعر وزمن الماء؟

نفضت عنها أحلامها كما نفضت عنها أشعارها وسارت نحو الحمّام طالعها وجه عماد في المرآة "صباح الخير عزيزتي، لا تنتظريني اليوم فأنا أعمل كامل اليوم وأعود متأخرا في الليل لدي عمليّات جراجيّة مهمّة ولا أظن أن الحالات ستكون سهلة".

-    ولماذا تواصل العمل في المستشفى؟ قلت لك مرارا العيادة والمصحة يلتهمان حياتك ومالذي تجنيه من المستشفى؟

-    ضحك منها ساخرا "المستشفى يا عزيزتي هو  كما تقولين "قطعة الحلوى فوق خبزة المرطبات c’est la cerise sur le gâteau وهي تخدم صورتي وبرستيجي وبالتالي أنا لا أتخلى

عنها".

-    غدا عيد ميلاد سارة وسرور، لقد بلغتا العاشرة من العمر، لقد تحدثنا في الموضوع طويلا، كل العائلة والأصدقاء مدعوّن عندنا، طبعا نسيت؟

-    عزيزتي، أنت تعلمين أن لا وقت لدي، تصرّفي كما تصرّفت دائما؟ ومازحها "ولماذا تظنّنين اني تزوجتك؟ أليس للتتصرفي؟"

أحست تجاهه بحقد مفاجئ، كل شيئ عنده لا قيمة له، لا يتذكر شيئا سوى عملياته ومرضاه وحسابه البنكي، أرادت لو صرخت في وحهه "لا لن أتصرّف بعد اليوم، تحمّل ولو ليوم واحد مسئولية شخص آخر غيرك". سكت لسانها، ولما ستتخاصم معه هذا الصباح  لا تريد أن تغضب اليوم.

رغما عنها تغيّر مزاجها للون الأسود، فقدت شهيّة الرسم فجأة وسكبت لنفسها قهوة صباحيّة مرّة، ترشفتها على مهل كعادتها، ودّت لو استقالت من عماد لمدة أسبوع واحد، تريد أن تغيب عن الوعي مرّة، تنسى كل ما حولها وتسافر بعيدا حيث لا أحد يعرفها. كان على واضعي مؤسسة الزواج أن يضعوا بند الاستقالة الوقتي.

لقد تعبت، تجري لاهثة منذ سنوات تعمل في الداخل والخارج، تربي بناته، تهتم بكل شؤونه الصغيرة والكبيرة، يعتمد عليها دائما كطفل كبير، يفقد هدوئه وعقله إن غابت عنه ليوم أو لبضع يوم. عندها يتحوّل هاتفها الجوّال لجحيم، يسألها عن كل شيئ، ينسى حتى أسماء مرضاه وهاتف سكرتيرته، يتخاصم مع بنتيه حول القهوة واللمجة والملابس، يدخل في حالة من  الارتباك المطبق حتى تأتي لا تلوي على شيئ.

لطالما شكت أنه يبالغ قليلا وأنه يستغل طيبة قلبها، لطالما كان طفلها الثالث المدلّل جدّا وربما كان طفلها الذي أفسدته. فقدت القهوة طعمها المميز، بقيت فقط مرارتها في حلقها. فقدت فجأة ذلك الشعور الجميل الذي حملها لبضع لحظات هذا الصباح وحده الشعور بالتعب والغضب المكبوت بقي ملازما لها.

توجهت لغرفة سارة وسرور، تنامان في نفس السرير، لهما نفس الملابس والملامح، تتخاصمان كعدوتين وتدافعان عن بعضهما كلبوئتين مفترستين. شعرهما ناعم فاحم السواد كشعرها، بشرتهما بيضاء كعماد، قسماتهما كقسماته غير أنهم أدق وأجمل كقسمات كل أنثى. فتحت سارة عينيها الأولى، وانطلقت في حضنها لحقتها سرور تخاصمتا كالعادة عمن ستقبلها الأولى، حضنتهما معا وضحكت من خصوماتهم الصغيرة. فاض قلبها حبّا لهما وخرجت من الغرفة قبل أن يبدا في المعركة الصباحيّة الأولى.

كعادتها لم تصل المعينة بعد، استحضرت في نفسها كل أعذارها الحافلة التي تتأخر، زوجها المريض والبطّال، والدتها المقعدة، ابنها الذي أصيب بالحمّى الشوكيّة، الجار اللذي قتل زوجته واعتقلت الشرطة كل أفراد الحي بما فيهم هي للتحقيق معهم... لديها معينة  تحترف الكذب و صناعة المصائب، لابد وأنها تستمد كل الفجائع الممكنة من الكم الهائل من المسلسلات التركية والمكسيكية والمصريّة التي لا تنفك تسرد أحداثها وشخصيّاتها. هذه المسلسلات التي زادت من حجم الغباء في العالم العربي وعوض وأن تكون لنا أجيال تصنع حضارتنا وتقدمنا العلمي أصبحت لنا أجيال تصنع تخلفنا الفكري.

بدأت بتحضير فطور الصباح واتجهت لغرفة الحمام لتأخذ حمّامها الصباحي، تلذذت بالماء الساخن على وجهها وأحست بأنها تسافر بعيدا بين أحضان البحر، هل يعود زمن الشعر والماء مجدّدا، هل تأخذها يوما خيوط القمر حيث السعادة الأبديّة؟ لابد وأن تكف عن احلام اليقظة التي تترك فيها مذاقا آخر للمرارة.

اختارت فستانها الأسود الأنيق، مزاجها حملها للون الأسود اليوم، إنه لونها المفضل كلون شعرها وعينيها، يظهر بياض بشرتها ودقة قسماتها، نظرت لنفسها في المرآة وضعت أحمرها القاني وكحلا ثقيلا فوق عينيها، رشة من عطرها الفرنسي المفضل. تعالت وراءها صفارة اعجاب، عماد كالعادة يتقمص دوره الصباحي ويهديها وجبة الغيرة المعتادة.

-    الفستان الأسود؟ ولابد وإنك في مزاج رائع، من ستقابلين اليوم؟

-    عماد قلت لك بأنّني لا أقابل أحدا خارج علاقاتي المهنية، لدي ما يكفيني من المشاغل  ووقتي ضيّق في الصباح.

-    إذن ما سر هذا المكياج الجميل والعطر الفرنسي؟

-    مزاجي سيئ هذا الصباح اتركني قليلا لقد أضعت حياتك سدى، كان لابد وأن تكون ممثلا للنيابة العمومية عوض أن تكون طبيبا.

-    مريومتي تعلمين كم أحبّك،

-    بل تحب نفسك وتحب أن تمتلكني.

-    عدنا للفلسفة والنقاش العقيم، أنت تثيرين جنوني وغيرتي ولا أحتمل ان ينظر رجل إليك.

-    بل أثير شهوة الامتلاك لديك وأنانيتك وتشبثك الطفولي بكل لعبك الصغيرة، اعلم انك ستكسرني يوما ما عن ملل، إلى ذلك الحين اتركني قليلا فليس لي ما يكفي من الصبر هذا الصباح.

-    حسنا أكلّمك على هاتفك، وردّي علي وإلاّ.

-    وإلاّ ماذا؟

-    سآتيك لمكتبك وأقبلك فوق شفتيك أمام الجميع حتى يعرف الكل إنك لك.

تركته في الغرفة وخرجت إنها تختنق، منذ إحدى عشر سنة وهو يلازمها كظلها لا يتركها تتنفس يعمل طيلة الليل والنهار ويهاتفها في كل لحظة بحجة الاطمئنان عليها. وحين تضيق به تغلق هاتفها الجوّال، ينقض حينها على خطها الأرضي ويطلب سكرتيرها وكل زملائها في العمل حتى تجيبه. لم يترك لها الفرصة لترى بأي وجه خرجت، بوجه للحزن أم للفرح.

خرجت من المنزل بلا هاتفها الجوال اليوم ستستقيل منه ومن حياته ومن حياتها اليوم لها موعد مع البحر ومع القدر.

"صباحك سكّر" هكذا تنبأت له القصيدة، فأي صباح كان صباحه اليوم؟ صباح تجرّع خلاله مرارة الخيبة والهزيمة. أحسّ كم فقد من أشياء جميلة طيلة هذه السنوات، كلّما زاد رصيده في البنك تقلّص نصيبه من السعادة ومن الحب، لا يدري لماذا أحس بحنين مفاجئ للبحر، ظن انه قد شفي منذ زمن من حبّه للبحر ومن الرومانسيّة الحالمة. تذكر أحلامه الجميلة يوم كان رجلا لا يخشى وجهه في المرآة، اليوم اصبح له أكثر من وجه ينتعله مع كل بدلة وحذاء لامع. وجه للحرفاء اولي النفوذ والأرصدة المنتفخة، وجه لأولي السلطة، وجه لأولاده، وجه لزوجته، وجه لشريكه، وجه للطلاب ولعميد الجامعة، وجه لمرِؤوسيه... والقائمة تطول، مصيبته أن لا وجه يشبهه من كل هذه الوجوه، وجه ذلك الفتى الذي كان، وحده هو الذي يشبهه ولكنّه اختفى منذ سنوات حتى بالكاد يتذكر ملامحه.

الغريب هذه الأيّام أنّ ذلك الفتى الذي كبر، يعود إليه من جديد، أشعاره، آراءه، كتبه المفضلّة، أغانيه، رويدا رويدا يلتحم به من جديد ويسكنه من الداخل ويتذمر من رائعة العفن التي تنبعث منه، يجادله بالليل والنهار، يذيقه مر العذاب، يحاسبه حسابا عسيرا ويسأله أسئلة موجعة.

السابعة والنصف ولا مزاج له ليتوجه إلى مكتبه، لا مزاج له لتحمل زحمة الطريق وتشنج السواق، أذنيه ملّت من سماع الكلام البذئ والنعوت القبيحة التي يتفنن سواق العاصمة في نعت بعضهم البعض بها طيلة النهار. لا احد منهم يحترم إشارات المرور والآخرين، الكل مسرع ولا وقت له، الكل لهم الحق في احتلال الطريق على حساب الآخرين والكل يساهم في جعل الطريق حالة من الفوضى العارمة. إن السياقة في تونس العاصمة اختبار طويل للصبر ولكظم الغيظ ولابد وأن الله سيجازي الصابرين على أذى الطريق خيرا، هذه البلاد تختنق وتضيق بأهلها وسياراتها ولذلك فكل إما يرمي بنفسه في عرض البحر إمّا في عرض الجنون.

لا يدري لماذا تذكر كتابا قرأه منذ سنوات، قبل ان تصبح القراءة ترفا، فتح مكتبته وحمل الكتاب. قرّر أن يشرب قهوة أخرى على حافة البحر. وأن يعيد قراءة بضع صفحات من ذلك الكتاب. تذكّر قهوة على حافة الموج في المرسى الشاطئ . لابد وأنها مقفرة في هذة الساعة المبكرة، أسعدته الفكرة. حمل مفاتيح سيارته واتجه للمرسى. الطريق إلى المرسى جميلة طالما أحب طريق تونس البحرية، هذه الطريق التي تشق بحيرة تونس والبحر. تذكر منظرها من الطائرة، طريق طويلة ممتدة فوق الماء. كذلك حياته طريق ممتدة فوق برك عفنة وجثث وبقايا مبادئ. تذكر يوم كان يرتاد هذه الطريق في القطار أيام كان يتابع دراسته الجامعية في معهد الدراسات العليا بقرطاج. أيامها كان يجلس بجانب النافذة يتأمل حركة البواخر التي لا تهدأ، أحيانا كان يكتب قصيدة وأحيانا خطابا حماسيّا وأحيانا كان يكمل انجاز تمرين نسيه.

كم يحمل القطار من قصص للعشاق والطلبة والشغالين، حينها كان يحفظ وجوه مرتاديه عن ظهر قلب، فبحكم الزمن تنشأ علاقة ألفة بين مرتادي القطار، وتعرف قصة كل منهم. اليوم يجتاز نفس الطريق في سيارة مرسيدس فاخرة، ولكن مع هذا أحس بحنيين للقطار.

هاهي المرسى أخيرا وهاهو المقهى، نظر حوله لا زبائن في هذه الساعة المبكرة، اختار طاولة معزولة قبالة البحر وطلب قهوة وقطعة مرطبات وجلس فاتحا كتابه.

"إذا ما جلست طويلا امامي