هل هو غزل أم قدر

amour-lacسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


ارتدت فستانا أسود اللون من الدنتيل باريسي التصميم، إنها تعشق الفساتين الكلاسيكية الطويلة، تذكرها بالقصص الرومنسيّة التي لم تمل يوما من قراءتها. اشترت هذا الفستان من باريس خلال مؤتمر للمهندسين المعماريين، منذ أن رأته في واجهة المحل احبته من اول نظرة، ضحكت ومنذ متى كانت تطوف بالمحلات؟ كل ما تشتريه، تشتريه على عجل  و تتخذ قرارها عاطفيا. إنها ترتبط دائما بعلاقة حميمية مع الأشياء، لذلك لم يحدث أن ندمت يوما على شيء اشترته.

ارتفع صوت عماد يناديها: مريومتي هل أنت جاهزة؟ مللت من الانتظار سنصل متأخرين إلى حفل الاستقبال، لا أريد أن تفوتني فرصة التعرف للسفير الجديد.

-    ها أنا أكاد أن أجهز.

-    منذ نصف ساعة وأنت تكررين نفس  الجملة.

-    لو تتركني قليلا، استجمع أشيائي لكنت جهزت منذ زمن.

شعرت بالحقد تجاهه فجأة، لا صبر له، دائما يلهث وراء كل شيئ، تمضي حياته في الركض وراء الأشياء التي لا يلحقها، أما هي فتفضل السير على مهل والتلذذ بالحياة. لا تريد أن يلتهمها الوقت مثله لذلك تعلمت ان لا تعير كلامه انتباها وتعلمت ان تعيش داخل عالمها الصغير.

نظرت للمرآة مرة أخرى، لم تر جمالها، وحده قلقها طالعها في مرآتها وضعت عطرها المفضل وخرجت. في الطريق إلى مقر السفير الفرنسي، تساءلت مالذي أتت تفعله خلال هذا الحفل، إنها تشعر بالملل ستعيد نفس الجمل ونفس العبارات وستلبس نفس الوجه المبتسم ولكنها تريد أن ترحل بعيدا ربما إلى باريس مرة أخرى.

منذ أن وطأت قدماها إقامة السفير رأته، هاهو هناك كأس في يده، إلى جانبه امرأة رائعة الجمال تتعلق بذراعه، فهل تتعلق بقلبه أيضا؟ احست بلفحة مفاجأة من الغيرة، هالها هذا الاحساس، ما الذي أصابها لابد وانها جنّت. في تلك اللحظة التقت بنظراته، شيئ ما داخلها التهب فجأة، ودت لو ركضت إليه وسألته من أنت؟

هزها عماد من يدها، استفاقت من أوهامها ورسمت ابتسامة من ورق، لأناس من ورق مقوى، استمعت إلى ثرثرتهم، سمعت نفسها تجيب على أسئلة وتضحك، أحست أنها تتفرج على نفسها، جالسة في الصف الأمامي لمسرحية مملة، أين أنت؟

يا إلاهي، ما أجملها، ها قد أهداه القدر فرصة لرؤيتها، هاهو زوجها الدكتور، يحاصرها من كل جانب، لقد نظرت إليه، نظرة حبلى بأشياء وجمل وفواصل وكلمات. ها أنا يا حلوتي من جديد، من أنا؟ رجل يبحث عن ذاته فهل تكونين رفيقة لرحلتي؟ لا أعدك بمدن ولا بأساور ولا حتى بسفر، فقط أهديك قدرا ليس كالأقدار التي عرفتها، فقط تعالي إلي، ماذا لو حضنها بين ذراعيه الآن على مرأى ومسمع من القدر؟ هاهو الجنون يعاوده من جديد، يريد ان يحادثها، ان يسمع صوتها، أن يسمع صمتها، يريدها...

وجد نفسه وجها لوجه امامها، ملاك تحادث إحدى صديقاتها، زوجها انشغل مع السفير الجديد هاهي بكل بهائها أمامه قال لها: اشتقتك...

- قالت: حدث وأن ذكرتك...

- وانا حدث أن سكنت فيك منذ أسبوعين.

- قالت بدلال: وكيف كانت مدينتك؟

- غامضة وعصيّة كحصن قديم، جميلة كفينيسيا، جبّارة في دلالها كاسطنبول، وتدمنها كباريس.

- وهل عرفت خارطتها؟ وضحكت برقة لا متناهية.

- لكل مدينة أكثر من خريطة يا سيدتي الجميلة، خريطة يخطها العشاق بدمائهم وخريطة برسمها اللصوص بدهائهم.

- هاهي السياسة ثالثتنا من جديد وتنهدت...

- السياسة هذه الأيام كالماء والهواء تتنفسنا ونتنفسها، هكذا قدرنا أن نجتمع في حفل استقبال على شرف سفير فرنسا الجديد، وتريدين ان لا تكون السياسة ثالثتنا؟ إن القدر لا يفعل فضلا يا سيدتي الجميلة.

- هل مازال من الرجال من يقول لأمرأة يا سيدتي؟

- نعم شرط أن تكون جميلة وتلبس أجمل فستان أسود وتشبه كل المدن ولا مدينة تشبهها.

- وهل هذا غزل أم قدر؟

- قدرك ان أغازلك وقدرنا أن نلتقي.

قالت بفضول نسائي : هل هي زوجتك؟

- اجابها: هي زوجتي.

- قالت: جميلة جدا، بل رائعة.

- قاطعها: ولكنها لم تكن يوما مدينتي.

- أكملت قائلة: فالغربة قدرنا إذن.

نادها عماد،  قالت: لابد ان اذهب الآن.

- سأكلمك إذن.

اسرعت نحو زوجها، وبقيت كلمته صدى تتردد في نفسها: سأكلمك إذن وكيف سيكلمها، قد يهاتفها في المكتب؟ سعدت لأنه تعلّق بها، أحبت طريقته في رسم الأشياء، كأنه يتكلم بلسانها، غريب هو مثلها، سفينة تجوب البحار لا مرفأ لها، فهل يكون مينائها القادم؟

سيهاتفها، هكذا وعدها، ليت الصبح ينبلج قريبا، ليت الساعات تطوى ليذهب لمكتبه، يريدها، يريد صوتها، ضحكتها، طريقتها في تركيب الجمل و نحت الكلمات، لكم يشتاقها. دهر من الغربة واللوعة والفراغ والألم، إنه يشتاقها حد الوجع. هل يمكن ان نحب من نظرة من كلمة من سؤال من نزوة قدر؟ يريدها لانها حلم عمره القادم، لطالما انتظرها سنوات لتاتي ولم تأت لذلك سيكلمها.

* * *

هاهو أمام الهاتف في مكتبه، عشرات نقاط الإستفهام تحول دونه ودونها، ماذا سيقول لها؟ ماذا يقول لأمرأة خارقة للعادة، بماذا يغريها لتكون له؟ هدية ثمينة؟قصيدة؟سيارة؟مشاريع لسفر قادم؟ أي شيئ أهديك سيدتي لتكوني لي؟ استجمع شجاعته وهم بتركيب رقمها، يخاف ان ترفضه، يخاف ان لا ينبض قلبها بما في قلبه، يخاف أن لا تبادله نفس الرعشة واللهفة والشوق، كم يشتاقها.

رن هاتفها أخيرا، حبس انفاسه في انتظار صوتها الذي لا يأتي، هاهو الجرس الخامس يرن ولا تجيب، أحس باليأس يدب في نفسه وهم بقطع الإتصال، وفجاة أشرقت شمس صوتها، في اللحظة التي كان ينتظرها الأقل قالت:

-    آلو؟

-    أهلا بسيدة العمر الجميلة، صباحك ورد وفل وياسمين، اشتقتك...

رنت ضحكتها رقيقة حالمة حتى أحس رذاذها يتساقط على وجهه، ضحكتها كخيوط الشمس الذهبية التي تنضح بالوان قوس قزح، يال جمال ضحكتك سيدتي، سيدة قلبي، سيدة كل العمر.

-    قالت: انتظرتك منذ عمر ان تأتي، وها انت اخيرا.

-    ها انا جميلتي، ادعوك لقهوة صباحية على مشارف البحر فقد تكون سعادتنا على مشارف العمر.

-    لا اظن انني استطيع في نفس المكان الذي تقابلنا فيه اول مرّة.

-    تعالي في اي وقت تشائين فقط تعالي إلي واتركي لي فرصة البحث عن مكان يليق "بسيدة النساء".
-    إنك تحب نزار قباني !

-    " لسّت النساء، ماذا أقول؟ أحبّك جدّا..."

-    لقد ضاعت مني الكلمات إنك مدهش للغاية، حسنا ألاقيك غدا في السابعة والنصف في البحيرة امام البولينغ.

-    حسنا، ومن هنا لغد ستمر الثواني دونك كالدهور فأدعي لي سيدتي، علّ الله يلهمني صبره.

رنت ضحكتها مرة أخرى وأجابته:- اصبر فإن الله مع الصابرين.

انقطع الخط عن صوتها، انقطعت خيوط الشمس وغابت الوان قوس قزح. أحس بالبرد من دون صوتها، هاله شوقه إليها و احس بأنه بدأ يدمنها.

قالت:" اصبر فإن الله مع الصابرين"، إلاهي أي صبر هذا على شوقها؟ أي صبر على هذه النار التي تلفح احشاءه، أي صبر على جوعه إليها، إلى كلماتها، إلى حضورها، إلاهي أحس بان روحي قد تعلقت فجأة حتى أصبحت خارج الزمان والمكان. إلاهي، إلاه المحبة هل محبتي إيّاها نفحة من نفحاتك ؟أم هي فيض من محبتك لعبادك؟ إلاهي هل حبّها الذي اجتاحني هو حبّك أيضا؟

لأوّل مرّة منذ زمن طويل أحس بالقرب من الله، أحسّ بأنّ الله قريب منه، يرى صورته في الكون من حوله، يتنفس جلاله، أحس بضعفه وفقره وبأسه أمام عظمة الله، عرف الآن أن كل ثروته لا تساوي لحظة واحدة من لحظات القرب الحقيقي إلى الله، لحظات المحبّة الصرفة، السعادة الصرفة، المتعة الصرفة هو ان تكون مع الله في كل نفس ولحظة وثانية من حياتك. عرف الآن أن لا سعادة دون حب وأن داخل كل محبّة صرفة  محبّة الله الواحد الأحد.

لا يدري من أنّ له بهذا، لا يدري كيف أحس بمدى الفراغ الذي يعيش فيه منذ أن رأها أحس أنه قد رأى الطريق إلى السعادة الحقيقية، يكفيه ان يراها ليحس بكل كيانه ينتفض حبّا فكيف لو
قبّلها؟ كيف لو احتضنها؟ كيف لو لمسها؟

منذ ان هاتفها لم يبرحها ذلك الشعور بلإثارة، منذ سنوات طويلة لم يثرها شيئ ما، هاهو ببضع جمل اجتاحها ولكنها تخاف أن تغرق فيه، صوت ما داخلها يحذرها ان لا تستلم له، شيئ ما يقول لها انها تلاعب الحرائق، إنه رجل من النوع الذي انقرض، يحفظ الشعر عن ظهر قلب، يطرح نفس أسئلتها، كأنها خلقت من ضلعه.

قرّرت أن تشتري فستانا جديدا بالمناسبة ولما لا حذاء أيضا، ستمر بالحلاقة وتقوم بتصفيف شعرها تريد أن تكون في عينيه الأجمل والأبهى والأشهى، تريد ان ترى من جديد ذلك البريق المثير من الإعجاب والإنبهار والفضول في عينيه العسليتين من جديد. تذكرت نظراته فالتهب قلبها واحست بأمواج من المحبة تتقاذفها. لا تعرف ما الذي دهاها، لقد كانت دائما متزنة، من النوع العقلاني الذي لا ينجرف وراء العاطفة. تعلم في داخلها أنه طالما لازمها الجنون، ولكنها لم تستسلتم له من قبل، إنها لا تفهم هذا الضعف الذي يعتريها تجاهه ولا لهفتها على رؤيته ولا هذا الشوق الجارف الذي يكاد يفقدها عقلها فهل هو هزيمتها الكبرى؟ هل الحب حالة من الشموخ ام حالة من الإنكسار؟

الحب؟ وهل أحبّته بعد؟ لا تعرف حقا ما اعتراها هل مرض أم نزلة برد أم عاصفة من العشق أردتها صريعة الهوى، الحب؟ وكيف تسرب هذا الشيئ الخطير إلى قلبها ومنذ متى من اول كلمة؟ من أوّل نظرة أم من لون وكتاب تشاركا في عشقه. لماذا تحس بأنها كشهرزاد الحكاية، لما وقعت أسيرة كتاب يقرأه رجل خارج حدود المنطق والأجوبة؟ هل هذا هو القدر الذي عنّ لها ذات صباح ان تمازحه؟ وهل نمازح القدر دون أن نلهث لهزيمة ما؟

اشترت فستانا جديدا وحذاءا جميلا، صففت شعرها، نظرت إلى المرآة، لأول مرّة تحس بثقتها في نفسها تتزعزع، هل ستعجبه؟ تذكرت الحسناء الشقراء التي كانت تتعلق بذراعه في الحفل، أحست بلفحة من الأسئلة والحيرة تهزها من الداخل، وضعت لمسة من أحمرها المفضل وعطرها وخرجت تسير فوق السحاب.

فتحت مذياع السيارة طالعها صوت إديت بياف :

quand il me prend dans ses bras
il me parle tout bas,

je vois la vie en rose,

il me dit des mots d’amour

des mots de tous les jours et ça me fait quelque chose,

il me prend dans son cœur il me parle de bonheur

سافرت مع الأغنية وتسائلت هل يقول هذا الرجل كلمات حب عادية؟ وأي مقياس نقيس به عاصفة العشق التي تجتاحها إن لم يكن مقياس تلك الأعاصير التي تجتاح سواحل المحيطات.

هاهي سيارته في انتظارها، هاهي تلك الدنيا التي طالما حلمت بها تفتح لها أبوابها، فتحت باب السيارة، تسربت إلى انفها رائحة عطره، احست بدوار خفيف فهل تراه اثر عطره؟ ام أثر
عينيه ام اثر ابتسامته؟ بدون ان تدري أخذ يدها وقبّلها وقال:

-    صباح الخير حبيبتي، اشتقتك وانتظرتك وها انت اخيرا.

-    أجابته:لست ادري كيف تسرّبت إلي لم أستطع أن أخلف موعدنا.

-    نظر إليها طويلا وقال: قدرنا ان تأتي وقدري ان احبّك، و قدرك ان تكوني المرأة التي انتظرها منذ عمر.

-    أجابت: وكيف عرفت أنني هي؟

-    قال: "نور قذفه الله في صدري"

-    ضحكت وقالت : أي رجل انت يقرأ احلام مستغانمي، يحفظ نزار عن ظهر قلب ويذكر الإمام الغزالي في تجربته الصوفيّة؟

-    قطّب قليلا وقال: انت من تنفضين الغبار عن أشيائي العتيقة، إنّك تتقنين فن الغوص في أعماقي، انا أيضا تصيبني الدهشة من أقوالي، اتساءل متى حفظت كل هذا .

-    قالت: اعلم على الأقل أنك قارئ نهم.

-    قال: أعرف انني لفترة ما من عمري كنت اقرأ كما أتنفس، يوما ما ساحدثك عني، عن تفاصيلي، عن انتصاراتي، عن هزائمي، فقط حينها لا تتركني أبدا لأنني ساكون عاريا تماما أمامك
كما لم أكن مع أي أحد.

-    أجابت: كلماتك تخيفني، لا اظنني قادرة على رؤية روحك دون ان اهزم في جانب ما من داخلي. إلى أين ستسافر بي؟

-    أنا الآن مسافر فيك حبيبتي ولا تهمني الأماكن مادمت إلى جانبي، فقط من أين لي بمكان خارق للعادة لأمرأة خارقة للعادة.

-    ضحكت برقة أذابت قلبه وقالت: أنا أسيرتك اليوم فسر بنا "على غير منهج" فقد يكون فيك سفري القادم.

-    ضحك وقال: إنني أستبشر خيرا بالبحر لأنه السبب في لقائنا لذلك منذ اليوم سيكون ثالثنا، إذن فلنبحر معا عبر أمواجنا.



رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي

هل هو غزل أم قدر