عندما أحببتك

confusion-fin-amourسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


وجدت مريم ترسم وعلى وجهها ابتسامة حالمة، منذ متى لم ارأها هكذا، شيئ فيها كان يحلق بعيدا خارج كل الحدود، ربّما  أصبحت سعيدة فجأة؟ نظرت إلى رسومها، كانت جميلة حقا، ربما علي أن اتركها ترسم لي المصحة التي انوى بناءها.

اعجبتني الفكرة التي سأبرر  بها قدومي المفاجئ. ثار الصوت الساخر محذرا: "لماذا لا تقل لها الحقيقة وتترك الأعذار جانبا، لقد اتيت لتتمسك بها قبل ان تغرق في المجهول."  في هذه اللحظة بالذات ودّ لو يعرف هل يحبّها؟

لأوّل مرّة تساءل ما معنى ان نحب امرأة؟ هل الحب هو ان تشتهيها؟ هل هو ان تريدها لك وحدك؟ هل هو أن تكون هي دنياك وبدونها لا معنى لشيء؟ أعجبه التعريف الأخير، أن نحب يعني أن نكون حبيبتك هي معنى حياتك. فهل أن مريم حبيبته أم أن مريم صخرته؟ أصبح يتكلم مثلها، أسئلة بلا أجوبة وطريق بلا نهاية وغموض يلفه ويحمله، اضطرب داخله وأصبح يدور حول نقاط الاستفهام، هاهو في مربّع مجهول لم يحدث وأن جلس فيه يوما، الغموض شيء جميل أيضا، لذلك ربّما خلق الله المجهول والقضاء والقدر.

نظرت إلى مريم الحالمة، وقفت وراءها وعانقتها لم تنظر إلي وحدها ابتسامتها زادت اتساعا، أحسست بسعادة لا توصف إنها تحبني، فجأة بدت وكأنها عرفتني اختفى قناعها الحالم و عاد الوجه الذي أعرفه من جديد. ابتسمت مرّة أخرى ولكن الابتسامة لم تصل لعينيها بل بدت لي ابتسامة ثلجيّة باردة بلا روح. رايت في عينيها شيئا يشبه خيبة الأمل، كأنها كانت على موعد مع رجل آخر، وربما هي الغيرة التي تنهش قلبي، هل أسألها؟ هل أقول لها لماذا جئت اليوم إلى المكتب؟ هل أقول لها أنّها بيتي ومينائي وطريقي وأني بدونها أضحي سفينة تائهة؟

تكلمت حماقتي وقالت : "جائني اليوم الدكتور دمق إلى المكتب، نريد أن نبدأ بناء المصحة، هل ترسمينها لنا؟".

أجابتني مريم :" لا أستطيع أن أعدك بشيئ علي اكمال رسومات المجمع السكني أوّلا، لماذا لا تطلب من أنيسة؟ أفكارها واقعية وتلائمك كثيرا. رسوماتي أنا قد لا تعجبك هذه الأيام لأنها أصبحت أخيرا تشبهني."

صدق حدسك يا دكتور عماد، زوجتك أصيبت بحالة غريبة ولابد من عرضها حالا على مختص في الأمراض العصبية، هل تمر بأزمة نفسية؟ بحكم  اختصاصه يعلم أنه عندما يمر الانسان من الفرح إلى الحزن بسرعة فائقة ويغير عاداته فإن ذلك دليل على وجود حالة من الاكتئاب. لكن قلبه كان يضحك ساخرا، اكتشف أنه قادر على أن يحب ويكره وأن الحياة ليست ذلك المجرى العادي للماء. أكتشف انّه ليس بالبحيرة الراكدة المياه وان أشياء تتحرك داخله وتهزّه بعمق. أراد ان يقول لها أنّه يحب رسومها وطريقتها في ترتيب المساحات لكن حماقته تكلمت مرّة اخرى نيابة عنه : "حسنا سأرى أنيسة إذن" .

خرج من المكتب مفعما بأسئلة جديدة عمّا يحصل في حياته وعن المرأة اللتي هي زوجته دون أن يعرفها حقا. ترك المكتب وعاد ادراجه للمصحة، إنها المكان الذي يحس فيه بالراحة، هناك لا وجود سوى للحقيقية العلمية المجردّة، ولكن هل ان الطب فعلا علم مجرد لا علاقة له بالقضاء والقدر والقدرة الإلهيّة؟.

- الفصل السادس-

-1-

أصبحت الحياة كتابا بصور ملوّنة، كأنّه في أفلام والديزني التي يقبل الأمير الجميلة في آخر الفيلم ويتزوجها. بدأ يحلم بزواجه من مريم لا لإنه يأمن بالزواج كمؤسسة في حد ذاته بل لأنها الواجهة الاجتماعية الوحيدة الممكنة لتكون حبيبته له. وهو يريدها له وحده دون غيره ويريد بناتها أيضا، عاوده الحنين للأبوّة كأنّه لم ينجب أبناء قط، يريد ان ينجب منها أطفالا يشبهونه ويشبهونها، يريد أن يحملها بين ذراعيه وأن يقضي حياته ممسكا بيدها ويريد ويريد ويريد حد اليأس.

أصبحت أنفاسه وسعادته وكل ما يملك ذا قيمة حقيقية، معها أصبحت السماء زرقاء لازورديّة، والبحر بلا نهاية والنجوم ماسات لامعة في السماء. معها نسي الرطوبة والعفن والوسخ المتراكم في داخله منذ دهور، ومعها عاد يكتب شعرا. لم يصدق نفسه عندما عادت الأبيات تتهاطل كالمطر في رأسه، القلم يركض لاهثا فوق الأوراق والأبيات تتنزل كشلال محموم، كبركان انفجر بعد طول غليان، بعد 20 سنة من الصمت عاد الشعر إليه. وجد نفسه فجاة عضوا معها في جمعيات عدة، أخذ يتنقل من ولاية لولاية لأوّل مرّة منذ زمن وجد نفسه يغني  بعنفوانه الأوّل:

شيد قصورك ع المزارع

من كدنا وتعب إيدينا

الخمارات جنب المصانع

والسجن مطرح الجنينية

واطلق كلابك في الشوارع

واقفل زنازينك علينا

وقل نومنا في المضاجع

أدي احنا نمنا ما شتهينا

واتقل علينا بالمواجع

احنا اتوجعنا واكتفينا

وعرفنا مين سبب جراحنا

وعرفنا روحنا والتقينا

عمال وفلاحين وطلبة

دقت ساعتنا وابتدينا

دقت ساعتنا وابتدينا

نسلك طريق مالهش راجع

والنصر قرب من عنينيا

النصر قرب من إيدي"

قرّر أن يستثمر جزء من ثروته في العمل الخيري واعتبر أن ذلك يمثل تعويضا عادلا عما اقترفه من جرائم في حق نفسه أوّلا وفي حق الوطن.

تغيرت علاقته بالوطن تصالح مع الأشجار والطرقات والشواطئ، تصالح مع الشمس والغابات والجسور، لم يعد يحس بالضيق والضجر، لم يسافر منذ ثلاثة أشهر ولا رغبة له في السفر بعيدا
عن هذه الأرض اللتي من فرط حبّه لها دمرّته. فهم لماذا كان خاليا من كل شيئ، لأنّه كان ميتا، ميتا من اليأس والضجر. اليوم أصبح لديه حلم، ان يكون معها وللأبد.

تغيرت علاقته بالفضاءات أصبحت كل المدن مدينته فقط لأنه معها، مرّة قال لها هيّا نذهب إلى باريس أحلم ان أمسك بيدك عند منتصف الليل ونتمشى معا في شارع الشنزيلي. اريد أن أرى
اللوحات في اللوفر بعينيك، اريد أن أحضنك ونحن على نهر السين وأن أسمعك قصائد لويس أراقون.

يومها رأى في عينيها بريقا كالحلم وقالت أريد ان نذهب معا لروما وفلورانس وفينيسيا لطالما عشقت إيطاليا ولطالما أحب المدن اللتي يكون فيها الماء هو المدينة.

تاريخ حياته هو تاريخ سفره معها، يريد أن يكون أسبوعا لا ينسى، اسبوعا كالحياة كلّها يريد أن تدمنه حد الألم، إذا ادمنته أصبحت له، ذلك لأن الإدمان وحده سيجعلها تنسى القيم والمبادئ

وزوجها. في الحقيقة، إنه يحقد على هذا الرجل اللذي يتعلق بأذيالها كطفل صغير أفسده التدليل المفرط. يحس بالغيرة تنهشه كلما كلّمها وهو معها، يريد أن يقتله لأنه يستحوذ على

امومتها. ليس غبيّا لدرجة أن يظن انها تحبّه كرجل ولكن شيئا فيها مسؤول عنه وأحيانا يغلبه الغباء فيظن انها تحبّه وتحب زوجها وحدث ان بكى بحرقة كلما استبد به هذا الاحساس. لابد
وأن تترك هذا الرجل، يخاف ان يغلبها الواجب والأمومة فتضحي به هو الرجل اللذي تحب من أجل ذلك الرجل اللذي يكرهه كالحياة بدونها.

اخيرا جاء شهر نوفمبر، الطقس بارد والسماء مغيّمة حبلى بالأسرار . تواطأ مع الأمطار ومع البحر والأمواج. غدا سيلقاها في باريس، لابد وانها قد وصلت الآن إلى النزل، كلّم عون الاستقبال

مجددا ليتاكد من ان المفاجأة في انتظارها في غرفتها، ضحك عون الاستقبال وقال له: سيدي إنها المرة الخامسة اللتي تكلمني فيها، لابد وأنّك عاشق.

أراد ان يقول له انه عاشق، عاشق كالأغنية "أنا عاشق يا مولاتي"، تفاجأ بنفسه يغني:

" يا احلى لحظة في حياتي...

خوذ الحاضر...

خوذ الآتي...

انت في عيوني سهرانة...

وانت في نبضي سلطانة...

وأنا عاشق...

انا عاشق يا مولاتي...

نهديلك دنيا وردية...

ونهديلك مليون هدية...

وتاج مرصع بالهمسات...

ونكتبلك في كل هدية...

راني عاشق...

انا عاشق يا مولاتي...

نمشيلك خطوات طويلة...

ليلة وراها ليلة ورا ليلة...

ومعاك ما نحسب أنا خطواتي...

وإلي يعرضني باش نحكيله...

أنا عاشق... انا عاشق يا مولاتي..."

وإنه عاشق حد النخاع، حد اليأس...

 
رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي
عندما أحببتك