الرجل الآخر

amour-distantسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


أغلقت خط هاتف على كلمات حب بقيت معلقة فوقي، تنزل منها زخات من الحب المعتق، ملئني حتى كأنني ما احببت قبله قط. معز جعلني أعيد النظر في كل مشاعري وعلاقاتي قبله، حبّه من النوع الذي يجعلك تفكرين في ماهية كل شيئ وتعيدين ترتيب كل خياراتك السابقة.

نظرت إلى مكتبي، بدات برسم المشروع السكني الجديد، لم اكذب عندما قلت انّ حمّى الرسم قد عاودتني، رأسي مليئ بصور لغرف ومنازل وحدائق، واشياء جميلة، منذ زمن الجامعة لم احس بلذة وانا أرسم، تتزاحم الأفكار في ذهني حبلى بكل ما هو جميل، ما إن جاء وقت الزوال حتى هرولت مسرعة إلى سيارتي، وضعت أغنية كاظم "هل عنك شك" ، منذ أحببت معز أصبحت كل أغانيه لي،  معه كنت "الوردة والريحانة والياقوتة والسلطانة والشرعيّة والشعبيّة بين جميع الملكات".

وصلت سيدي بوسعيد على الساعة الواحدة إلا ربع، وجدت معز بانتظاري، أعجبني ببدلته الأنيقة السوداء، لفت انتباهي انه يضع ربطة عنق حمراء كلون ثوبي، هذا الرجل سيجنني حتما.
ما إن رآني حتى تهلل وجهه، شيئ في ابتسامته جعلني أشعر بأن كل الكون ملك يميني، لم يلمسني ولكن نظراته كانت تقبل كل شيئ فيّ:

-    معز لقد وصلت باكرا؟

-    بل لقد جئت متأخرا بعمر.

-    بل اتيتي ومعك كل العمر

-    أين ستسافرين بي؟

-    ستجلس في شرفة منزل عتيق، على هضبة سيدي بوسعيد قبالة البحر لنتحدث ونتغذى.

-     ما اسم هذا المكان عزيزتي؟

-    اسمه الفيلا الزرقاء، تيمنا بلون سيدي بوسعيد.

-    يعجبني الإسم، يوما ما قد تكون لنا أيضا فيلتنا الورديّة، على مشارف العمر الجميل.

هكذا هو معز لا يستطيع أن ينفصل عن الشعر، كانه قد توحد مع الكلمات، قال لي يوما إنني نصفه الآخر الجميل الذي يعيش زمنه الماضي. في الحقيقة، جميل ان يحبّك شاعر، تتحوّل حياتك إلى حلم صغير وتصبح كل الأرض غيمة ورديّة اللون. هكذا هو معز، دائما معه يصبح الواقع صورة زيتية جميلة حبلى بالألوان والمعاني والمشاعر.

جلسنا في شرفة الفيلا الزرقاء، كان الطقس حارا مع هبّات من النسيم الخفيفة، امتدت زرقة البحر إلى ما لا نهاية، اعجبني منظر المياه الامعة الزرقاء الممتدة في دعوة مفتوحة للسفر، كل شيئ حولي يغري بكل ماهو مثير، وسامة معز، خلو المكان وحميميته، قبلاته على كف يدي والبحر. من انّ لي ان أقاوم كل هذا الجمال والسحر؟ ولماذا عليّ ان أقاوم؟ لقد مللت من لعب دور المرأة المثالية، فلست مثالية بالمرّة، انا انسان بنزوات ولحظات ضعف وهزائم.

لم استطع منع نفسي من الضحك وأنا أرى ابتسامة معز العريضة، داعبته ساخرة:"أنت شديد الوسامة عندما تبتسم، ومنذ دخلنا المطعم وانت تبتسم وتحلم وتصمت، عوّدتني على الشعر والغزل..."

-    "كلمتنا في الحب تقتل حبّنا، إن الحروف تموت حبن تقال" على رأي نزار قباني وأنا أريد لحبنا ان يحيا طويلا، ان يحيا دائما وللأبد لا ان يموت.

-  معز عزيزي، نزار يتحدث عن الكلمات فلا تخلط الأشياء، يخيفني تطرفك، الابد، دائما، اتركني أعيش اللحظة الحاضرة معك، لا تطلب مني أكثر فقد أهرب منك.

- لا أستطيع ان أعيش في الحاضر وللحاضر، معك بالذات أريد الأبد، لا أستطيع منع نفسي من ان تحلم أنك لي، حتى الموت، حتى المستحيل.

- المستحيل والأبد إحدى اختراعات من كتبوا قصص الحب،  الأبد لا يكون دنوييا أبدا الأبد صفة من صفات الله والدهر.

- مريم، تتحول كل كلمات الحب معك إلى نقاش عن ماهية الأشياء، وبقدر ما أحب السفر الروحي معك بعيدا بقدر ما يغلبني حبّي لك، يألمني أنك لست لي، تقتلني الغيرة، أريد أن أحتلّك
على رأي نزار "أطول احتلال وأجمل احتلال". لا أطيق أن لا تكوني لي وللأبد، فقط دعيني أحدثك، عن غربتي دونك، عن حياة عشتها قبل أن أحبّك، لا تسجنيني في اللحظة الحاضرة فمنذ زمن لم أحلم.

- حبيبي، مشكلتك انّك في لحظة تحلق إلى عنان السماء، كل ما اريده أن لا يألمك السقوط الشاهق، فقصتنا لن يكون لها مستقبل، لا انكر انني مجنونة بك وبقدر حبي لك، بقدر خوفي منك ومن نفسي، ليلة الحمامات كان من الممكن ان أكون لك، لكنك كنت عقلي أيضا ليلتها.

- ليلتها، خفت أن تندمي وان اخسرك، كما قلت لك سابقا، أن نحب حد الجنون هو الجنون عينه، ذلك ان نبض العاشق هو نبض حبيبه، ليلتها ما احسست بنبضك، احسست خوفك. لا تظني انني سعيد بأنني لم المسك، كل شيئ فيّ نادم ايضا، فلست سوى رجل، كما قلت لك، بهزائم كبيرة وانتصارات لا تذكر، حبّي لك كان اقوى من حبي لنفسي، لذلك في المربع الأخير تراجعت خطوة، أريدك لي وحدي ويوم أمتلكك لن أرضى بأن أتقاسمك مع احد ولو كان زوجك.  

- تطرح الموضوع الخطأ، لا تتقاسمني مع زوجي فما هو لك الآن لم يكن له يوما!

- لا أريد الآن فقط أريد الآن وكل الآوان الآتي يا جميلتي، نسيت ان أسألك ما تأكلين؟

- ها ان اتناول كلماتك عوضا عن الغذاء قالت والابتسامة تملئ كل شيئ فيها.

مرّت الساعات على الغذاء كالثواني، لم يتوقف الحديث والنقاش بيننا، اكتشفت ان معز رجل كالبحر، له راي في كل المواضيع، وزاد جنوني درجة. عدت إلى مكتبي على الساعة الرابعة، لم استطع ان أرسم كنت امام مفترق الطرق وعلي ان اختار معز أو عماد؟


- الفصل الخامس -

جلس عماد في مكتبه في المصحة، قالت ممرضته أن امامه على الأقل عشرين مريضا، قام بعملية حسابية بسيطة أي 900 دينار اخرى، يحس بالإرهاق والتعب كان يومه طويلا جدا، تذكر ان عليه ان يمر أيضا على مريضه الذي قام له بعمليّة هذا الصباح. رغم حالة التعب الشديد لا يستطيع ان يترك 900 دينار المتبقيّة عليه ان يواصل يومه.

تواتر المرضى على مكتبه، في السنين الأخيرة تضاعف عدد مرضى القلب، لا يمر اسبوع دون ان يقوم بجراحة للقلب المفتوح، في الحقيقة سنوات دراسته في امريكا لم تذهب سدى، ربما لو بقي هناك لكان عددا من رقمين من بين العديد من الجراحين، لكنه في تونس عدد من رقم واحد  ومعادلة ما فتئت  تجلب له الكثير.

لا يدري كم من المرضى اهدى قلبا جديدا وكم من مرضاه توفوا إثر سكتة قلبية أيضا. في الحقيقة مع كل مريض فقده كان يفقد قليلا من قلبه، مع الوقت تعلّم ان لا يتعلّق بكل ماهو زائل وفان وقرر ان يتعلّق بكل ماهو مادي محسوس. فمكتبه ورصيده في البنك لن يزولا بل باقيان للأبد مادام يعرف كيف يحافظ عليهما. الشوكة الوحيدة الاتي لا تزالت تنخز جنبه الأيمن هي مريم. لا يعرف حقا إن كان يحبها او يكرهها كل ما يعرفه أنها ملكه. شيئ فيها تغير في الأسابيع الأخيرة كانت تقود ثورة ما ضده وضد نفسها، أصبحت مشعة أكثر، زاد جمالها، شيئ فيها يضج بالحياة، المرأة التي كانت زوجته كانت باردة كالثلج، تلبس وجها ليس وجهها، كان يعيش مع صورة جميلة وليس مع امرأة. سألها مرّة لماذا تزوجته؟ ضحكت كثيرا يومها وقالت في مرح "ربّما لأنك حينها أفضل الخيارات المتاحة". توقف اليوم طويلا عند المقولة تلك، أفضل الخيارات المتاحة جحينها، والآن؟ هل مازال أفضل خياراتها؟ لسنوات مضت ظن أنها لن تخونه مطلقا، كان كل اهتمامها منصبا على ابنتيه وعلى منزلها وعليه أيضا، لا يذكر أنّها لم تطبخ لهم يوما أو أنها أهملت ملابسه او تفاصيله الصغيرة، كانت مثالية في كل شيئ، لا تنس عيد ميلاده أبدا وحتى أبويه واخته لم تنس يوما أن تهاديهم في كل المناسبات.

مثالية نعم ولكن بلا دفئ حقيقي، وفي الحقيقة كان هذا يناسبه كثيرا، كانت علاقته بمريم مادية بحتة مبنية على معادلة رياضية بموجبها كان يحصل منها على حب بسيط واشباع جنسي مقابل ماله واخلاصه لها. لا يتذكر أنه معها جن او فقد عقله كما يتحدث زملاءه الأطباء عن عشيقاتهم، هو رجل العقل اوّلا وإن وجد بعض الحب فلما لا. الحياة مع مريم سلسلة من البرامج المتكاملة تتخيل ما سيحدث في الغد وفي الأسبوع المقبل وفي العشر سنوات المقبلة، معها لا مفاجآت ولا أمور قد تخرج عن السيطرة فكل شيئ مخطط له سلفا.
لماذا يحس اليوم ان عالمه بدأ يتهاوى، أحس بكل معادلاته الرياضية تسقط أرضا، لطالما ظن ان لا شيئ يقهر الرياضيات، حتى الحب والموت و المرض والحياة سلسلة من المعادلات الرياضيّة فقط لمن يستطيع حلّها.

مريم تقول ان الموت هو الوجه الآخر للحياة، ناقشها طويلا يومها لاقناعها بان الجسد البشري عبارة عن آلة دقيقة تعمل بانتظام وان تعطبت فأعطابها نوعان نوع من الممكن اصلاحه ونوع لا يمكن بأي حال فعل شيئ لتجاوزه ويكون الموت هو النتيجة الحتميّة، كمقولة ان واحد مع واحد يساوي اثنان.

يومها ضحكت مريم طويلا وأجابته: "يا زوجي العزيز واحد مع واحد قد يساوي اثنان وقد يكون ثلاثة وقد يساوي صفرا، المسألة مسألة وجهة نظر لا غير، لا وجود لحقيقة واحدة، الحياة ليست نظام كمبيوتر يشتغل بنعم او لا الحياة فيها الحزن الذي قد يجعل العملية تساوي صفرا كما ان الفرح و السعادة قد تجعلها تساوي ثلاثة. وإلا بماذا تفسر أن عند الحزن يضيق الكون فلا يسعك، وتجتاحك حالة من الفراغ الداخلي فتضحي كل معادلاتك أصفارا تدور حولك من كل جانب، وفي الفرح يتسع الكون من حولك وتشرق الحياة ألوانا فتصبح كل معادلاتك تتمتع بفائض من السعادة يغير أرقامك وكل عملياتك الحسابية."

ولمّا سألها وفي اي خانة هي معادلتك أنت؟ عندها نظرت إليه طويلا وقالت : "أنا ألاعب الأصفار من حولي طويلا حتى أحولها لاثنين او ثلاثة أولصفرين أيضا"

قلت: "فأنت حزينة إذن؟"

أجابتني: "الحزن في حد ذاته ترف لا أدعيه كالفرحة أنا هنا في كل طريق أسير حتى نهايته وما همتني أصفاره او أعداده يهمني الطريق أولا والمعادلة ثانية. ولا تسألني بعد الآن فعندما أجد الاجابة قد أحدثك عنها يوما ما".

لم أفكر بمدى عمق كلماتك إلا هذه الأيام، لم يحدث أبدا أن شعرت بانك حزينة معي إلى هذه الدرجة، في الحقيقة انا أيضا لا اعرف إن كنت سعيدا او حزينا. قررت ان أحدثك بما في نفسي هذا إن وجدت الوقت فالمرضى ينتظرون.

تحاملت على نفسي وناديت السكريتيرة لادخال المريض التالي، لكن يدي توقفت امام سماعة الهاتف، أحسست بانني أختنق من المرضى والعيادة وأريد الرحيل بعيدا، لأوّل مرّة اكتشف بأنني عبد للمرضى وللمصحة وللمستشفى، حركت يدي فهالني حجم الأغلال التي أحملها، نظرت حولي، المثالية تخنقني، كل شيء في مكانه مرتب انيق مثالي، كمريم اللتي كانت. ناديت السكرتيرة وطلبت منها الاعتذار للمرضى، منذ ان بدأت مزاولة الطب لم يحدث وأن تركت عيادتي، شيى ما يدفعني للبحث عن مريم. اكتشفت فجأة أن مريم كانت صخرتي التي تثبتني ولا تتركني انحدر. كنت طوال وقتي أدور حولها كعقارب الساعة وكانت محوري الذي لا يتحرك. مريم معها أشعر بالأمان، واليوم أحس بأن مريم تتحرك من مكانها.

خرجت من العيادة لا ألوي على شيئ، نظرت حولي لأوّل مرّة أرى ان السماء زرقاء وذات جمال خلاّب، ركبت سيارتي وقرّرت ان اذهب لمريم في مكتبها، منذ افتتحته لم أزرها ولو مرّة، لطالما اتهمتني بالأنانيّة، أذكر يوم الافتتاح، يومها كانت لي عملية استغرقت مني 12 ساعة، وصلت متأخرا لحفل الافتتاح، في حالة من الارهاق وشت بها ملامحي المتعبة. عندما وصلت كان المكتب خاليا ومريم جالسة لوحدها غارقة في ما لا ادري ماذا. كان الحفل قد انتهى...العجيب في الأمر انّها لم توبخني ولم تسألني، نظرت إلي وقالت: "تأخرت كالعادة، أرجو ان لا تتأخر عن العمر بعمر  فأحيانا يمر بك العمر متأخرا ولا تدري." تجاوزت ما قالته كعادتي لأنني لا أستطيع فهم ما تقوله عندما تكون في حالة بين الغضب والعتب والبرودة، اليوم أدرك حجم الخراب الذي الحقته بها، فعندما لا تثير لدى المراة أي احساس فهذا يعني انك قد خسرتها للابد. مقولة اخرى لمريم تجاهلتها عن جهل أيضا.

تشير الساعة للرابعة مساء، وصلت للمكتب، طرقت الباب وقلبي يدق بسرعة جنونية، كنت قد صعدت الدرج لاهثا، في داخلي شك وحيرة وخيبة وندم، مريم تضيع منّي وقد تتركني وترحل.
صوت ساخر في داخلي أجابني ومن قال انها لم ترحل عنك، الان استفقت لقد رحلت عنك منذ زمن ولم تدري. أغضبني الصوت الساخر في داخلي وقررت ان أتجاهله ايضا ولكن هذه المرّة عن ألم. قرعت جرس المكتب، فتحت لي أنيسة صديقتك و شريكتك في المكتب، قرات الدهشة على وجهها عندما راتني، "عماد، هل انت بخير، كل العائلة بخير؟ ليس من عادتك ان تاتي للمكتب؟"

سألتها :" هل مريم هنا؟". اجابتني انيسة : "طبعا هي هنا، أين تريدها ان تكون؟ فهي هذه الأيّام إمّا ترسم أو تحلم؟"

يتبع..

رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي


الرجل الآخر