منذ البدء...كانت النهاية : الفصل الأوّل
سنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi
دقّ جرس المنبّه، صوته طويل ومزعج يلاحقه منذ أصبح قادرا على الفهم والإدراك. منذ كان في السادسة من عمره يستيقظ على الساعة السادسة صباحا في الصيف والشتاء، عمره اليوم خمسون سنة بالتمام والكمال، قام بعملية حسابية بسيطة، ولكم يتقن العمليات الحسابيّة، أي أنّه منذ ستة وأربعين سنة يستيقظ على الساعة السادسة صباحا.
لا يدري لماذا اليوم بالذات استيقظ بمذاق غريب للأسئلة، بوصلته التي لا تخطئ أبدا تميل اليوم للجنوب. نفض عنه هذا المذاق الغريب للملل، استجمع شتات أسئلته، استجمع شتات جسده وقام من السرير.نظر إلى جانبه، طالعه وجه ملائكي حالم يسبح في سبات عميق، غبطها على سعادتها وهدوئها.
إنّها نائمة ربّما هي تحلم الآن باللون الجديد لشعرها أو بالفستان الجديد الذي رأته البارحة في واجهة محل بالبحيرة لا أسئلة لها ولا مزاج يتقلّب مع الرياح، أحلامها صغيرة وبسيطة، امانيها ان تكون أجمل امرأة وأكثرهن اناقة أن لا تكون المعينة سليطة اللسان وأن لا يوبخها رئيسها في العمل لأنها وكعادتها تتأخر كل يوم نصف ساعة عن وقتها القانوني.
هذه هي ملاك زوجته، جميلة جدّا، كما يقول الجميع، بيضاء البشرة، زرقاء العينين، شعرها أشقر ناعم دأبت على صبغه باللون الذهبي منذ أن بدأت تدب فيه شعيرات من الشيب، عمرها حسب تاريخ ميلادها أربعين سنة، عمرها الظاهر للعيان لا يتجاوز الثلاثين وعمرها العقلي في تقديره في العشرين.
هذه هي ملاك منذ عرفها في العشرين لم تتغيّر ابدا، دمية جميلة، رقيقة، ناعمة الملمس، هادئة كأنها بحيرة جميلة تحف بها أزهار الزيزفون. تسير مع الحياة بلا أثر، تنحني في العواصف الهوجاء، تينع في الربيع وفي الصيف. لا تغضب أبدا، لا تلهث خلف المناصب وخلف النجاح المهني، كل ما تريده أن تكون دائما أنيقة وجميلة في عيون الناس وفي عينيه.
كم هو قاس في الحكم عليها، رغم انّها احبّته دائما، تحاول ارضائه، تنفذ كل رغباته، لا تعارضه أبدا، ولا تعارض أحدا. كم هو قاس وأناني ومجنون، لماذا يحس بها ظلا باهتا لشخص ما؟ لماذا يشعر بالملل كلّما حدثته عن همومها الصغيرة؟ أليست طفلته بشكل أو بآخر؟ أليس هو من جعل منها ظلا باهتا له؟ لماذا يحاكمها اليوم وعلى ماذا يحاكمها؟ ألأنّها لم تبخل عليه يوما بفروض الولاء والطاعة؟ ألم يتلذذ بجعلها ملك يمبنه؟ ألا يحسده عليها القاصي والداني؟
أحس بألم شديد في رأسه، تزاحمت الأسئلة حتى خنقته، غصّت نفسه، أحس بفراغ قاتل يلتهمه، يعض عليه يسكنه، يفرغه من الإحساس، يحوله لحطام سفينة غارقة في مياه عميقة وقاتمة بلا قرار تصاعد صوت عبد الحليم يغني: "إنّي أتنفس تحت الماء، إني أغرق، أغرق، أغرق، ياكل الحاضر والماضي يا عمر العمر، هل تسمع صوتي القادم، القادم من أعماق البحر"... منذ مدّة أصبح يسمع أصواتا بعيدة تسأله اسئلة موجعة، يسمع أغنيات ظن أنّه نسيها إلى الأبد. منذ مدّة دأب على سماع صوت ساخر يوجه له لوما لاذعا، صوت يقظ نومه، يفسد حياته، صوت يعرّيه من آخر ورقة توت تستر وراءها فهل هو صوت ضميره.
تعالت قهقهة طويلة من أعماقه، عن أي ضمير تتحدث ياسي معز؟ لقد بيعت كل الضمائر الحية في مزاد علني، تزايد عليها اللصوص والسراق والأثرياء الجدد وأصحاب الغنائم. لقد بيعت كل الضمائر الحية منذ زمن وقايضوها بالقروض الميسرة وبالسيارات الشعبية وبالأحلام المعلبة والمثلجة و الجاهزة للاستهلاك اثر تسخينها لخمس دقائق في فرن التاريخ.
تلذذ بالماء الساخن للدش على وجهه، ارنفع صوته يغني:
كيف دار كاس الحب بيني وبينك وسكرنا لثنين
سلمت قلبي ومهجتي بيمينك وسخرت من لخرين
خرج من الدش، وقف امام المرآة ككل يوم يتأمل وجهه، وجه أسمر وسيم، قسماته دقيقة، عينيه عسليتين صافيتين، شفتاه مرسومتان بدقة، فيهما امتلاء خفيف يغري بالتقبيل، انفه طويل ومستقيم، وجهه دائري لا تستطيع ان تحوّل نظرك عنه، شعره فاحم السواد، دب شيب خفيف في جانبيه ولكن لازال السواد هو الغالب، لديه تجاعيد خفيفة حول عينيه وفمه تعطي انطباعا بانه دائم الابتسام، "اي نعم يا سي معز ها انت تزداد وسامة مع السنين، تمر السنوات فوق صفحة وجهك كالماء، تكاد لا تترك أثرا " هذا ما قاله شريكه في المكتب، سخر منه في داخله فهو يعلم أنه يحسده على أي شيئ حتى على ما وهبه له الله. حلق ذقنه، وضع عطره المفضل، رائحته سكريّة لذيذة لا طالما قالت عنها ملاك أن الموضة تجاوزتها منذ زمن وتقول عنه طالباته في الجامعة أنّها تحمل سحرا فرعونيا مجهولا تجعلهن في حالة من الانبهار الدائم، نعم ولعنة فرعونيّة أيضا تطارده منذ زمن.
يال جهلهن المفرط، لقد سئم وحهه وعطره ومكتبه والجامعة، سئم الطالبات وشريكه والزملاء، سئم النجاح والثروة والسيارة الفاخرة والبدل الأنيقة شيئ فيه يتخبّط، ينتفض ألما، يصرخ، شيئ فيه يتعذب، يحترق حتى تزكم أنفه أحيانا رائحة الحريق. أي صباح هذا الذي تستيقظ فيه أسئلتك قبل أجوبتك؟ أي صباح هذا الذي يحمل في طيّاته أشياء ظنّ أنه نسيها منذ زمن فهل كان فقط يتناسى أو يتغابى؟
دخل إلى المطبخ، وجد المعينة بصدد تحضير فطور الصباح، قهوته لهذا مذاق غريب للحزن، على غير عادته وضع فيها قطعة سكر، ربّما يصبح مذاقها أشهى، أحسّ أنّه بصدد رشوة القدر علّه يخلّصه من هذه اليد التي تطبق على صدره. ترشّف قهوته، غريب هو طعم السكر في القهوة قفزت إلى ذهنه قصيدة نزار قباني:
"إذا مرّ يوم ولم أتذكر به
أن أقول صباحك سكّر
فلا تحزني من شرودي وصمتي
ولا تحسبي أن شيئا تغيّر
فحين أنا لا أقول أحبّك
فمعناه أنّي أحبّك أكثر".
أصبح يتذكّر الشعر الآن، شرب قهوته على عجل كعادته دائما، رجع أدراجه لغرفة النوم، لمس شعر ملاك بكف يده، مسح على رأسها تحركّت قليلا وغمغمت بكلمات غير مفهومة، في لحظة حنين مفاجئ همّ بأن يقبّلها، بأن يقول لها "صباحك سكّر"، قطعا ستسخر منه أو ستظن به مسّا من الجنون.
تركها لأحلامها وبدأ في تحضير ثيابه. أحس بأن مزاجه يحمله للون الأسود، لماذا هذا اللون الذي كان لونه المفضّل في زمن مضى يفرض حضوره هذا الصباح؟ اللون الأسود لون لا يقبل أي
تفكير هو لون واضح، محددّ، لون مبدئي، كلون مبادئ هذه الأيّام وكلون مبادئه التي اعتنقها بعد الجامعة. سحب من الخزانة بدلة أنيقة سوداء اللون، اختار لها قميصا أبيض وربطة عنق سوداء، هاله التناقض بين سواد البدلة وبياض القميص كتناقض سواد مبادئه الجديدة وبياض أحلامه السابقة، مسافة من السنوات الضوئية تفصله عن ذلك الفتى الذي كان هو.
يتداخل الماضي بالحاضر في ذهنه كما يتداخل الأبيض بالأسود، ترك غرفة النوم وتوجه لغرفة زينب، الله لكم تشبهه زينب ابنته الكبرى، أنها اليوم في الخامسة عشرة من العمر، مزهوّة بجمالها، باسم أبيها، طموحها أكبر من طموحه، إنّها تشبه هذا الرجل الذي أصبح، تمنى لو كانت تشبه ذلك الفتى الذي كان، فتح غرفتها وجدها قد استيقظت، لابد ان الاستيقاظ المبكر موروث جيني أيضا. وجدها امام المرآة، فراشها في حالة من الفوضى العارمة وهي في حالة من الحيرة الوجودية حول اي شيئ ترتدي اليوم؟
لمحته على الباب قالت: "ذاهب للعمل كالعادة؟ هل تركت لي مصروفي؟"
حز في نفسه أنها لم تقبله لم تسأل عن نشرة أحواله النفسية، كل ما يهمها المصروف ولا غير، حتى حضوره لا يعنيها بقدر ما تعنيها محفظة نقوده، أجاب "نعم في المكان المعتاد"
أغلق الباب على خيبته وفتح بابا آخر للأمل، مهدي لا يزال يغط في سبات عميق، غرفته مبعثرة ينام مع بقايا الأكل والأحذية والمشروبات ولعب الفيديو، لمح رأسا آخر في غرفته، نعم صديق كالعادة ينام في بيته، تسائل هل هذا بيته فعلا أم فندق من فئة الخمس نجوم؟
"مهدي، مهدي..كفاك نوما، لابد وان تذهب للمعهد"
أجابه صمت عميق، اعاد الكرّة "مهدي...مهدي إنّها السابعة". تململ الرأس في مكانه، "السابعة؟ قلت لك مرار لا تيقظني في الفجر، اريد ان انام قليلا، هذا البيت لا راحة فيه" وغرس رأسه مجدّدا تحت الغطاء.
مزاجه سيئ هذا الصباح ولا حاجة له لتبادل الكلمات اللاذعة، ترك الغرفة وأغلق باب خيبته الثاني. فتح حافظة نقوده وضع رزمة من الأوراق النقدية تحت مخدة ملاك وخرج.
بقلم سنيا قرّام الجديدي
Website Design Brisbane