ليلة كعمر

amour-parisienسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


-3-

يده في يدها وهما يسيران في طريق باريسي ممطر، لا أحد يراقب ويحاسب "ويؤدي العدالة".  قرّرت ان تعيش للحظة الحاضرة، مرّة أخرى لتعترف إنّها تريده بجنون وتريده لها ولكن هل لها الحق في ان يكون لها؟ لازالت تجتر خيبتها السابقة معه في الحمامات عندما رفضها. تخاف ان تخطو معه الخطوة الأولى، تريد ان تترك معه الباب دائما نصف مفتوح، تخاف أن تتخذ فيه قرارها نهائيّا. لقد تعبت من ان تقرر في كل شيئ، تعبت من الميزان المنتصب امام عينيها بخيره وشرّه. تعبت من القيم والتضحية ونكران الذات. لماذا لا تكون امرأة وقعت في الحب وكفى؟

تتأرجح بين نعم ولا، والطريق معه تسير طويلة، والرذاذ يبللهما، يده تحيط بخصرها، تتنفس عطره وكلماته، هذا الرجل يغري بكل ماهو مجنون، تركته يحتضنها، يلفهما صمت الشارع والمطر، التفتت إليه، في عينيه وهج من الحب والرغبة، ماذا لويفترسها عشقا؟ توقف فجأة على قارعة الطريق، وجدت نفسها على مشارف السين وعلى مشارف بحر من القبل ومن العسل. وقفا جنبا إلى جنب على حافة جسر نهر السين، تناثرت قبلاته فوق وجهها وتناثر غزله الجميل، رقيقا كنسمة صيف، ومتوجها كشمس حارقة في شهر أوت.

أحست بنفسها في عالم غير العالم، كل الكون من حولها ينضح غزلا وفتنة وشهوة وجنونا، ذراعه تحضنها بكل رقة العالم وهي تذوب فيه بكل استسلام الأنثى العاشقة. امسك بوجهها واخذ
يقبل كل ما تطاله شفتاه، شفتاه كأجنحة الفراشات اللي ترفرف في الربيع، تحس نفسها تتفتح بين ذراعيه كالورود العربية ذات الشذى النفاذ. لم تر أرق من شفتيه ولا أشهى من قبله الطائرة على اجنحة الأمل، تكاد لا تحسها على وجهها لفرط رقتها ويكاد قلبها يتوقف من فرط لهفتها. مسح على شعرها ببطء، قبل أصابعها الواحد تلو الآخر بخشوع أخافها وأثارها، نظر إليها وقال: تحضرني قصيدة لنزار وأنا أقبل أصابعك الجميلة:"

عدي على أصابع اليدين ، ما يأتي

فأولا : حبيبتي أنت

وثانيا : حبيبتي أنت

وثالثا : حبيبتي أنت

ورابعا وخامسا

وسادسا وسباعا

وثامنا وتاسعا

وعاشرا . . حبيبتي أنت"


الغريب أنها لم تحس للحظة بما تحسه أي امرأة شريفة على مشارف الخطيئة. المصيبة أنها لا تحس انها ترتكب أي خطيئة. إنها تسترجع حقها المغتصب في الحب والحياة، تحس انها تخرج
من ذلك السجن الكبير اللذي وضعها فيه الآخرون وأقفلت هي أبوابه بأن قبلت قضاء الفترة دون ان تستانف الحكم.

وهل ان حبها له خطيئة؟ هل قبلاته واحضانه خطيئة؟ هل أن سعادتها به خطيئة؟ لم يحدث وأن كانت سعيدة فعلا إلا لما عرفته، فلماذا الأسئلة إذن؟ لماذا في كل قصة حب ما تنتصب محكمة الآخرين لتنتقي الخير والشر وما يكون وما لا يكون وما يجب ولا يجب؟ الليلة هي حرة، هي حرة به وفيه ومنه وستفعل ما يمليه عليه قلبها. فليذهب العقل للجحيم إنها اخيرا سعيدة.
احتضنته بدورها، كم هي دافئة أحضانه كفسحة أمل بعد يأس. لأوّل مرّة تحس أنها تحتاج لرجل، تحس بحاجتها للقبل، للمسات الحانية، للرجولة المغلفة بالنعومة والرقة. فمن قبله ما كانت تحس بهذا الجوع ولا لهذه الحاجة المتوحشة اللتي تلتهمها. لا تدري لماذا تذكرت فراشها الزوجي، أحست كم من الأخطاء ارتكبت بحق جسدها وقلبها وكبرياءها باسم الواجهة البراقة و البرستيج الاجتماعي.

تكاد لا تصدق ان هذه المرأة اللتي ترتعش من الرغبة هي، لا تكاد تتنفس من فرط دهشتها ومن حجم العوالم اللتي يفتحها امامها. هل هي نفس المرأة؟ لم يحدث وأن أرادت رجلا بكل هذا العنف والقوة والأنانيّة. مع رغبتها تحركت غيرتها أيضا هل يحضن زوجته كما يحضنها هل ستقتسم معها قبلاته ولمساته وجسده؟ لا مجال  لأن تلمسه امرأة أخرى غيرها، إنه لها، رجلها، حبيبها، عشيقها، صديقها، انه كل حياتها وحتى في موتها لن يكون إلا لها. هاهي تتبنى تفكيره وكلماته وتريده أيضا للأبد، هاهي تنسى اللحظة الراهنة والحاضر وتريده لها حاضرا ومستقبلا ولو كانت لها معجزتها لمحت ماضيه أيضا. متوحشة هي من فرط حبّها له وتريده لها.

لن تكون ككل النساء وتسأله عنها، ستلغيها بحضورها وباحضانها، بعدها لن يكون صالحا لأي امرأة اخرى، لأنها ستحبه كما لم تحبه امراة من قبل و ستحبه كما لن تحبه أي امرأة من بعدها. ستتغلغل في أقصى شرايين قلبه وجسده حتى لن يستطيع ان يعيش بعدها إلا فضلا. هكذا هي امرأة الكل او الاشي، امرأة متطرفة فيه وفي حبه حد القسوة وحد النزيف. عندما نحب رجلا بكل خيبات العمر الماضية بكل احلامنا المجهضة، بكل أخطائنا وامانينا يصبح التطرف عنوان هذا الحب وهي تحبه بكل قوة الأمل وبكل قوة اليأس أيضا.

وصلا إلى النزل، نظراته لا تبارحها، يده لا تفارق خصرها، صمته أبلغ من كل القصائد ومن كل اغاني الغزل، يكاد لا يداري لهفته وشوقه، ومع هذا لا يدعوها إلى غرفته صراحة. ابتسمت في داخلها، اعجبها ان تختبر صبره، ماذا لو تتركه الآن بين أحضان الخيبة يقضي ليلته وحيدا على مشارف امرأة يشتاقها حد اليأس؟ أحيانا تريد أن تعرف ماهي حدوده، هل من الممكن أن يكون ككل الرجال؟ إنه مختلف، ليس في نظراته ذلك النهم اللذي تراه في اعين الرجال على الطريق، في عينيه بريق دافئ ونعومة، في عينيه رغبة محترمة. ضحكت في سرّها، هل هناك شهوة في حدود الاحترام والأدب؟ مع معز تنقلب كل المفاهيم، طريقته في تقبيلها كأنها من زجاج، طريقته في لمسها في احتضانها في النظر إليها، لا شيئ فيه يشي بأنها جسد ورغبة بالعكس كل ما تحسه وتراه وتسمعه يجعل منها أنثى وامرأة.

لا زالت تتأرجح بين نعم ولا والممر إلى الغرف غارق في العتمة، تكاد تسمع دقات قلبه وقلبها وهما يسيران باتجاه السعادة أو الخيبة ماذا تفعل بحبّه؟ وماذا تفعل بدقات قلبها المتراقصة، تحس بحالة من الخدر كأنها في غير وعيها، وحدها يده اللتي تحتضنها تذكرها بانها تمشي على الأرض لا فوق السحاب. وصلا إلى باب غرفتها، توقفا امام الباب، كلاهما ينتظر لمسة، إشارة، دعوة ما، مشاعرهما تغلي كبركان ينذر بالانفجار في كل لحظة، فتحت حقيبة يدها بحثا عن البطاقة المغناطسيىة لفتح باب الغرفة، سقطت البطاقة من يدها من فرط رعشتها أخذ منها البطاقة وفتح باب الغرفة. وقف صامتا على حافة الباب وعلى حافة الأمل، نظرت إليه وابتسمت: "معز ، أريد منك أن تبقى معي هذه الليلة، اريد ان تحدثني عن الحب. أحس كانني في خرافة عشقية فلا تتركني."

أغلق الباب ونظر إليها: "حبيبتي، لنا كل العمر لأحدثك، اتركيني هذه الليلة أحضنك وانام فمنذ زمن لم اجد للنوم سبيلا، منذ زمن والمرارة تأرقني كل ليلة، منذ زمن وانا على حافة الحب وعلى حافة الانتظار. أريدك لي باحضانك، بدقات قلبك، بروحك، بجسدك  بكل ما في العمر من بقية عشق، بكل احلام الماضي والحاضر أريدك ان تكوني لي."

-4-

يدها في يدي ونحن نسير في طريق باريسي ممطر، أكاد اتنفسها عشقا هذه المراة اللتي أثارت كل أحلام العمر، اكاد لا اتماسك عن تقبيل كل ما فيها علني أطفأ عطش السنين، ماهذا الحب العميق لآخر حدود القلب والشرايين؟ ماهذا الحب اللذي يشقني كشفرة حادة، يغمرني، يميتني ويحييني في كل طرفة قبلة، يلتهم أحشائي نيرانا. اكاد أن أقبلها في الطريق، أكاد أن التهم كل ما فيها  ومع هذا أريدها ان تاتي إلي عن قناعة، عن إيمان لا فقط عن شهوة او عن كبرياء.

أريدها، نعم اريدها ولا أستطيع منع نفسي من ان تشتاقها ولا أن تشتهيها. ولكنني لا أشتهيها فقط كامراة وجسد، أريد قلبها وحبّها وروحها. اريدها عن حب وهاهي بين احضاني تنتظر  أن أقرّر عنها. يكفي ان امد يدي إليها لتكون لي. غير انني أخافها، نعم هذه المرأة تثير خجلي، معها أحس بارتباك وارتعاشة الحب الأوّل، انا الرجل الخمسيني يلتهمني الخجل امام حبيبتي.
نظرت إلى عينيها، هالني ما رأيته في عينيها الجميلتين مزيج من الإثارة والإنتظار والفضول، نظراتها أسقطت آخر صخرة في حصون صبري وحيرتي وخجلي وارتميت في أحضان البحر.
حبيبتي الجميلة، أطوف شوارعك وحدائقك وبحارك، شارعا شارعا، حديقة حديقة أؤدي كل فروض الطاعة والولاء لكل زهرة من ازهارك، لكل عصفور يسكن خيوط شعرك، لكل فراشة تتراقص على شفتيك، ما اجمل انهارك وبحيراتك ومنازلك، ما اجمل حقولك المعطرة بالزهر والياسمين. ما ارق ورودك ذات الأوان الزاهية، أنظر إليك يا فصل الربيع فتأخذني خيوطك الذهبية إلى أحلى أيام العمر.

حبيبتي، أكاد أشهق من فرط روعة حروف اسمك فوق فمي، أكاد اموت من فرط رقة الفراشات فوق أصابعك، ماهذه المرأة الربيع، ماهذه المرأة الحديقة، اتوه في مياهها العميقة، أكاد أغرق في أمواجهها العاتية، اكاد أنسى كل العمر في حضرتك حبيبتي.

لا املك من الكلمات ما يصف هذه المرأة، عجزت لغتي وحروفي عنك يا ربيع العمر، ما اقول وانا تائه بين الهضاب والوادي، ما اقول لك يا جميلتي؟ فمعك تصبح اللغة عاجزة عن وصف روعتك، معك تسقط قلاع الحروف والجمل وأبيات الشعر. انت امرأة وحدها لغة الموسيقى قد تؤدي ولو نزرا من رقتك، أحببت امراة تقبع وسط الشعر والموسيقى فما أقول لها؟
غمرني الحب حتى آخر قطرة دم تسري في هذا الجسد، غمرني الحب حتى آخر ارتعاشة نفس وآخر الروح، وعرفت ان شيئا بيننا قد تغيّر للأبد منذ هذه الليلة. نعم أعرف الآن أنك قد أصبحت الروح منذ أن ضممتك إلي وتوقف الزمن.

سريعا ما مرّت الليلة معك، كان كل شيئا فيها من السعادة الصافية والصرفة، لأوّل مرّة في كل العمر أستطيع ان أقول أنني سعيد، سعيد فعلا بك ولك ومن أجلك.
 
يتبع..
 
رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي
ليلة كعمر