Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

عاشق للحياة

suicide-tentationAmal M. - أمل م.

أمسك بالحبل, عقد عقدة بيديك المرتعشتين و نظر إليها. إنها حقا حياته, تبدأ بعقدة و تنتهي بها.

تردد ألف مرة في تطويق عنقه بذلك الحبل, و هاهو فجأة يلقي به بعيدا بكل هلع, فقد عاد إليه صوابه لوهلة و تذكر أنه عاشق للحياة.

قرر أن يعطي لنفسه فرصة أخرى, و تساءل مجددا ... هل في الحياة ما يستحق العيش حقا؟. هو لا يعرف الإجابة, و لا يعتقد أنها موجودة أساسا. ففلسفته البسيطة حول الحياة تلازمه: هو ولد دون اختيار, غير دار كيف أو لماذا, بل هو جاهل بنفسه حتى... لا يعرف من هو ولا يعرف عن أسرته شيئا. كل ما يعرفه أن والداه كانا قبيحين, بل يقسم أنهما قد كانا من أشد البشر قبحا, فصورته المنعكسة على المرأة تنطق دمامة :

أنفه أفطس معوج تكسر من شدة اللطم و الضرب, عيناه منتفختان ضيقتان بهما حوَل, له شفاه متقشرة  إن نطقت نطقت صوتا خفيفا مبحوحا, و إن ضحكت كشفت أسنانا مصفرة, و إن ابتسمت فهي إلى الذبول و الموت أقرب. شعره كثيف أجعد. قامته الطويلة الواهنة تعلوها حدبة عظيمة أحنت ظهره فجعلته لا يبعد عن الأرض إلا بعض مسافة.

له جسد عجوز في السبعين, و هو لم يجاوز الثالثة و العشرين بعد. كم يكره جسده ! و كم يشمئز منه ! .

تأمل المرآة... لقد تشققت من شدة قبحه و ما عادت تتحمل أن تراه.  يقف أمامها كل صباح فلا تعكس له إلا القبح حتى ضاق صبره, فأمسك بأطرافها و صاح :"اكذبي علي! اكذبي علي و لو مرة!! سئمت الحقيقة... سئمتك و سئمت صدقك! قابليني ولو يوما بكذبة... أفرحيني و لو لمرة... و لو كذبا!". ثم ضرب بكرسيه القديم عرض الحائط و صرخ و بكى, و فكر في الانتحار ثانية. و لكنه حاول الانتحار عشرات المرات قبلا :

حاول أن يلقي بنفسه في مفترق الطرقات أين سيدوسه الجميع بلا رحمة و لكنه خطى خطوتين ثم تراجع. قد هاله الألم. لا يريد أن يتفتت جسمه إلى أشلاء. مازال ذلك الجسد الضعيف يعز عليه.

شق الجسر المطل على النهر الكبير و تسلق أحد أعمدته ثم نظر من فوق ؛ إنها مسافة لا تقاس, فهو لن يغرق فقط بل سيصطدم بقاع النهر!. انتظر حتى تلقي به الريح فلا يلوم نفسه, و لكنه تشبث بالعمود فجأة عند أول نسمة هواء داعبته. قد هاله الغرق, إنه لا يريد تجربة ألم الاختناق من جديد. مازال هواء الحياة يعز عليه.

أخذ سما, مزج به الماء, ثم قرب الكأس إلى شفتيه المرتعشتين, فما لبث إلا و ألقى بالكأس بعيدا. قد هاله السم, فهو لم يتذوق حلوا في حياته, فهل سينهيها بمرارة الحنظل ؟!
كثيرا ما حاول إنهاء حياته و لكنه يعود إلى كوخه حزينا مهموما... يشعر بالذل و الهوان أمام الحياة. تلك التي تطل عليه من بعيد, تسخر منه, تجذبه إليها ضاحكة كلما حاول الرحيل عنها... تقنعه في كل مرة أن عذابها ألذ طعما و أمتع مغامرة من عذاب الموت و سكونه, فينساق إليها خاشعا كالعبد المغلوب عليه, كالكلب السائب الجائع, بل قل كهامش من هوامشها و كائن شذ من كائناتها. حرمته من حنان الأم و رعاية الأب حتى شب على الحرمان فشاب الحرمان عليه. لقد وجد نفسه وحيدا منذ نعومة أظفاره ثم وجد نفسه لصا من اللصوص, منحرفا من المنحرفين, و جاهلا من الجهلة. و استمر ضميره في تأنيبه لسنوات... لا يقدر على نسيان العائلة الفقيرة التي كفلته و رعته بعد أن كان متشردا, لقد سرق مالها فسرق ذلك المال منه, ثم فر هاربا لا يدري إلى أين.

بدأ يقتنع إذن أنه من حق الحياة أن تسخر منه.

افترش الأرض و استلقى على جنبه الأيمن ثم نظر من خلال النافذة من بعيد. حتى السماء خالية من النجوم, و حتى نور القمر يرفض أن يطل عليه. و لكن صاحبنا تعود الاحتقار فلم يعد يشغل باله إلا طعام اليوم الموالي. هل سيكون زيتا و ماء؟ أم ماء و خبزا جافا؟ قد يأكل و قد لا يأكل... و من يهتم له أصلا؟
ربه؟

و من ربه؟ إنه لا يعرفه و لا يريد أن يعرفه. يريد فقط أن ينفرد به لدقيقتين فيلومه على سوء خلقه و رداءة تسييره. إنه غير قادر على أن يوفر له على الأقل سريرا ينام عليه. يريد أن يلوم هذا الرب الذي يصفه الناس بالعدل و الكمال و يخبره أنه أبعد ما يكون عن العدالة لأنه خلق ثم وقف جانبا ليشاهد. نعم. إنه يستمتع بصراع البشر, يتلذذ بدماء الضعفاء و يصرخ فرحا كلما سحقوا بين شقوق الزلازل أو غرقوا بين أعظم الأمواج. ثم يطمئنهم بكل وقاحة بأن يوم الحساب قريب و أن كل ظالم سينال جزاءه. أليس حريا به إذن أن يعتذر للمظلومين و يقف بين صفوف الظالمين؟
لماذا ألقى به في هذا العالم؟ ماذا يريد منه؟و لماذا يمنعه من إنهاء حياته؟ هل يريده أن يحيا ميتا؟

أراد أن يصلي و لو لمرة. و لكنه لا يحب أن يذل نفسه, مازال يقدر على حل مشاكله بمفرده. ثم أن ربه سيرفض دعواته. كيف لا و هو أمّي لا يتقن بهرجة الكلام؟ هل ينتظر ألف سنة حتى
يصل دعاؤه؟

تتالت إلى سمعه فجأة ضحكات طفل صغير, و ما فتئت أن تحولت الضحكات إلى بكاء, فرفع رأسه قلقا, و لكنه أيقن بعد لحظات أنه  كان يهذي.فتذكر لوهلة لحظات طفولته و ضحك على نفسه.

كان -وهو صغير- يجوب الحي و ينظر إلى السماء قائلا :"لا تقلق. سأجد لك تفاحتك. فقط لا تغضب... و لكن عدني بأن تعيدني إلى الجنة إذا وجدتها. لن أطلب سوى سرير صغير وثير في ركن
ضيق من أركان الجنة".

و كان يبحث عنها بين أغصان الشجر و بين الأعشاب كالساذج الساعي خلف سراب, معتقدا أن التفاحة التي ألقت بآدم و حواء إلى حضيض الدنيا ستسمو به إلى السماوات العلى.
كان كلما سئم جلس يسأل الله و يترجاه أن يخبره كيف تبدو التفاحة. و كان يقنعه بأن يسامح البشرية و ألا يكون سريع الغضب و الهيجان مثله.

"يا سيدي الإله. أتسمح لي بلحظة؟أنا "سامويل". و لي طلب صغير. فقط أخبرني كيف تبدو تفاحتك. كن صبورا, لا تتعجل العقاب و لا تحزن فكلنا نتعلم من أخطائنا. أنا أعترف بأن السيد ادم و السيدة حواء كانا طيبين جدا و لم يقصدا أن يعصيا أمرك. لا بد من أنهما قد شعرا بالجوع فأغراهما حسن خلقك للتفاحة, و هما لم يتذوقا سوى تفاحتين فقط, و بجنتك تفاح كثير. و أنا أعتقد أنك كنت غاضبا على السيد إبليس فجعلته قبيحا و لكنك سهوت للحظة فتسلل إلى جنتك و أعطى التفاح للعم ادم و السيدة حواء... كان عليك أن تضع التفاح كله بجانبك,بل كان عليك ألا تخلق الشجرة أصلا. فلو لم تفعل لما عصيا أمرك. و يجب أن تتفهم غضب السيد إبليس أيضا. فقد لعنته أمام جميع أصدقائه فشعر بالخجل و الحرج. هيا. أنا أنتظر. دعني أرى جنتك... أريد أرجوحة. لا تخف, لن ألعب بأراجيحك طويلا. هي كلها لك. هل أغمض عيني؟"

ثم يغمض عينيه و يفتحهما بعد لحظات فيجد نفسه في مكانه. و كان في كثير من الأحيان يفقد صبره فيصرخ كالمجنون :" و ما ذنبي أنا أصلا؟ لو كنت معهما لمنعتهما. و لكنني لم أكن هناك!! لا تعاقب الظالم و المظلوم! إنك سيء جدا و أناني. لا أحتاج أراجيحك. و لن أعطيك تفاحتك حتى و إن وجدتها!"

و سرعان ما اتهم بالجنون من قبل الجميع... فقد كان يهذي بالتفاحة و يستوقف الناس باكيا :"جدوا له تفاحته... جدوا له تفاحته"

و لم يكن أحد يلتفت إليه. و من كان ليلتفت إليه أصلا؟

الناس؟

و من هم الناس؟ إنه لا يعرفهم, و لا يريد أن يعرفهم. يريد فقط أن يسألهم ماذا فعل و ماذا يجب أن يفعل حتى يصير إنسانا صالحا. و لكن يبدو أن طالب التفاحة قد نهرهم عن الحديث إليه أو إطعامه أو رعايته بعد أن سرق مال الأسرة التي كفلته و هو في العاشرة. فما هو إلا أحدب أمي كثير الشتم لله. و لذلك عاقبه الله و جعله يتعذب فقرا و جوعا... حارما إياه حتى من إنهاء حياته.

كل هذه الذكريات جعلته يضحك طويلا. كم كان غبيا. كان عليه أن ينهي حياته و هو في تلك السن. كان بإمكانه أن يلوم الجميع بكل ثورة الطفولة و اندفاعها.

و لكن هيهات. يبقى هو أكثر البشر عشقا للحياة.

تراوده أحيانا خواطر تبعث على الأمل فيقول في نفسه: كيف أنكر فضل الحياة و حلاوتها؟ هل أرفض الهواء الذي أتنفسه؟ و كأنني طفل صغير يرفض قطعة حلوى!
ثم يستطرد متشائما :" أنا طفل تسلم قطعة حلوى... و لكنه وجدها عفنة!"

مازال لم ير في الحياة ما يستحق العيش. لا يريد أن يغمض عينيه في الظلام بعد أن فتحهما على النور. إنه يريد أن يموت مرفوع الرأس أيما يختار و وقتما يختار. يريد أن يموت دون ألم, يريد أن يموت مبتسما, أن ينتصر على الحياة و لو مرة, أن يخلص نفسه من العالم و يخلص العالم منه.

انتفض لوهلة كالمذعور. أو هكذا تعود كلما راودته فكرة الموت. و شعر بألم خفيف في جنبه الأيمن فاستلقى على الأيسر مكرها. فعلى يساره أفظع مقبرة و أوحش مرقد للأموات.
و لكن النوم لا يداعبه إلا و هو على جنبه الأيسر. فأغمض عينيه ببطء و دخل عالم أحلامه و هو يصارع أحشاءه الخاوية.

يتبع

أمل م.

عاشق للحياة

Vous pouvez lire aussi