شكرا على السعادة

couple-adultereسنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi


-1-

هاهي ياسمين الحمّامات، مدينة تحمل اسم أجمل زهرة تونسيّة، امتد البحر أمامها بلونه الأزرق اللامع، نزلا من السيارة أمسك بيدها وقال لها: هيا نسير على شاطئ البحر، أحب السير حافي القدمين على حافة الأمواج.

-    أنا أيضا، عزيزي احب السير حافية على شاطئ البحر، حين يداعب الماء قدمي أحس بالبحر يسري في دمي و أغوص في أعماق لا قرار لها، عندها أرى الله كبيرا وجميلا، أراه جبّارا ورحيما، قهّارا وغفورا فما أصغر الإنسان أمام عظمة الله. إن إلاها يخلق كونا بهذا الجمال لابد وأن يكون الجمال كلّه لذلك أنا أحب الله لأنه إلاه أبعد ما يكون عن صورة وأخلاق البشر، إن الله هو الكمال لذلك كلما اقتربت من الكمال أعرف إنني بدأت أعرف الله حقا، ومنذ رأيتك أحسست بشيئ داخلي يجتاحني حتى أقصى أعماق القلب فمن غير الممكن أن يكون كل هذا الحب من غير الله.

توقف فجأة ونظر إليها طويلا وقال : عرفت الآن معنى ان تتلاقى الأرواح سيدتي، لقد لاقت روحي روحك منذ الأزل وبقيت تتحين فرصة لقائنا الدنيوي حتى قدّره الله لنا، ربما تقاطعت طرقنا يوما ما لنعرف الله حقا ونكتشف كيف نحبّه حقا. لذلك أتلهف إليك وأريد أن أحادثك وأروي ظمأ سنين من القحط دونك، أريد أن اخرج من الصحراء إلى واحتك فلا تتركيني أبدا فقد تكونين رفيقتي إلى الله.

قالت: لا اعلم أي رجل انت ولا اي امرأة انا نلتقي خارج حدود الزمن وخارج منطق المجتمع وخارج نطاق الشرع، تعلن حبّك لي من شرعيّة الحب نفسها وتقول واقول أن في محبتنا شيئ من الله فأي منطق هذا معز؟

-    مريم، إنه منطق الحب الصرف، فلماذا انجرفت إليك إن لم يكن قدرنا ان نلتقي؟ وهل القدر من الله؟ قطعا هو من الله ولذلك ففي حبي لك قطعا شيئ من الله.
أحست بحرارة داخل صدرها، سرت فيها كلماته كالنار، اخترقت دورتها الدمويّة وشرايينها، فقدت احساسها بالزمان والمكان واحست بنفحة من السعادة لم يحدث وان شعرت بها قط. اختزل العالم في امواج البحر التي تداعب قدميها وبهذه اليد الي تمسك يدها برقة لا متناهية وبهذا الرجل الذي يحتويها ويغريها ويشعلها ويطفئها دون ان يلمس شيئا فيها بل لقد لمس كل ما فيها لمس قلبها وعقلها واحساسها وروحها و إنّها تحبّه.

لا تدري ولا يدري كيف مر اليوم وهما معا، سارت بهما الساعات كالثواني، مرّ اليوم في غفلة من الزمن، ضحكا معا وقرئا نزار معا، استمعت إلى أغانيه المفضلة ولأوّل مرّة منذ سنوات دندنت مع ام كلثوم ووردة وعبد الحليم. توقف الزمن، عاد للوراء زمن أفلام الأبيض والأسود والزمن الجميل وإنّه رجل من الزمن الجميل.
في طريق العودة إلى تونس لم تستطع أن تقول شيئا، كان كل شيئ يبكي داخلها، يتعذّب يصطلي نارا ومع هذا لم تتكلّم، ماذا ستقول له؟ هل ستقول له إنّها تشتاقه وهو معها إنّها تريد ان يضمّها إلى صدره، إنّها تحن إلى ان يقبّلها أن لا يترك يدها أبدا؟ ماذا تقول له، إنها تحس باليتم دونه، بالضياع، بالألم، بالتعاسة، أحست بالمرارة والقهر ورفضت الكلمات ان تخرج، ظلّت حبيسة صدرها، ورسمت ابتسامة فوق وجهها.

نظر إليها، إنها تبتسم، تذكر أنه قرأ مرّة في مكان ما أن الحزن كلما كان كبيرا كانت الابتسامة عنوانه، أحس بعذابها ولكن لا حيلة له، لابد وأن يعود للمنزل، ملاك تنظره وأولاده والمكتب والعمل والصفقات، لكنه يريدها أيضا، لا يستطيع ان ينسى يدها التي لا زال يحضنها، ماذا سيقول لها؟ ماذا يهديها من أجل أجمل يوم في حياته، لقد تطابقا معا حد الألم. احس أيضا انه يخافها، كانت تقرأ فيه ككتاب مفتوح، لم يستطع معها إلا الحقيقة العارية كما هي. إنّها المرّة الأولى منذ سنوات التي يعيش حقيقته، أحس انّ ذلك الفتى الذي كان يعود إليه من جديد. هاهي مشارف البحيرة وهاهي سيارتها، هل يتركها تنزل وتختفي من حياته إلى الأبد. صوت داخله صرخ فيه : اتركها فليست لك ولن تكون لك، ما اللذي تريده منها؟ إنّك خاو من الداخل كأصداف البحر الفارغة فهل لديك ما تقاسمها؟ ولكن صوتا آخر أقوى يرفض أن يتركها معها أحس بسعادة بسيطة لم يعرفها من قبل إنها فرصته الأخيرة ليسعد حقا فهل يتركها؟
لازلت تنظر إليه تتوجس باسمة، إنها أشجع مما كان يتصور لم تخيب ظنه، لم تبك، لم تسأل ولم تطلب منه شيئا فتحت باب السيارة ونزلت قائلة: "شكرا على السعادة، وتصبح على قرار".
انهمرت كل الدموع التي حبستها طويلا وهي معه، من فرط خوفها ان لا تراه مرة أخرى لم تجرأ على سؤاله، لفرط خوفها من أن تفقده لم تجرأ حتى على البكاء كانت تبتسم وداخلها يبكي ويصرخ ويولول، كانت تبتسم وألم سام يذبحها ويفتتها لملايين القطع الصغيرة ولم تتكلم.

لفرط عذابها أشعلت سيجارة أولى وثانية وغابت مع الدخان، لا تريد العودة للمنزل ولا تريد أن يراها أحدا، تريد ان تختلي بنفسها كالقطة التي تلعق جراحها، تريد أن تشفى منه ولو قليلا فهذا العذاب لا يطاق. قررت أن ترحل ولو لأربعة وعشرين ساعة، منذ سنوات لم يحدث وان أخذت إجازة لنفسها، من حقها اليوم أن ترتاح وان تجلس مع نفسها، هاتفت والدتها وطلبت منها ان تأحذ سارة وسرور ليقضيا الليلة عندها، احتجت بالعمل، هاتفت عماد فلم يرد عليها لابد وانه في غرفة العمليات، بعثت له بارسالية قصيرة وعادت أدراجها للحمامات. هذه المرة هي لوحدها فعلا، تذكرت كل لحظة قضياها معا، عاودتها الرغبة في البكاء من جديد، لكم تشتاقه.


-2-

هو نفسه لم يستطع ان ينام ليلته، طاردته صورتها وضحكتها وعطرها، طاردته ذكرياتهما المشتركة والقصيرة وأحس بالعذاب من دونها، هم بان يهاتفها ولكنه لم يجرأ، ملاك بجانبه تحصي أنفاسه، ربما هي الآن مع زوجها؟ أحس بالغيرة تحرق قلبه، لا يستطيع أن يتركها لأي رجل آخر وإن كان زوجها. لماذا اتت متأخرة عن العمر بعمر لماذا لم يعرفها منذ زمن؟ لماذا؟
ماذا تراها تفعل الآن؟ يكاد يتنفس أنفاسها، يسمع صوتها، إنه يراها امامه، شهية كتفاحة ناضجة، عابقة كشجرة لوز أزهرت في الربيع، متفتحة كوردة حمراء اهداها عاشق لحبيبته، هاهي تتهادى امامه ولا يستطيع ان يرى سواها، كره نفسه وكره ملاك والمجتمع والزمن والقدر. قرّر ان يهاتفها، هكذا ان يهاتفها على الثالثة صباحا علّه يشفى بصوتها من عذابه. كيف أصبحت سعادته منذ لقائين وكتاب؟ تسلّل من سريره واتجه لقاعة الجلوس، أغلق الباب خلفه، نظر يمينا وشمالا كلص محترف، تعالت من داخله ضحكة ساخرة، هذا زمن الحب المسروق، أن تحب هو الجريمة اليوم أما ان تسرق الما ل العام وتحتال وتثري على حساب الآخرين وتكذب وتنافق فذلك يسمى "أن تنجح في حياتك" . هاهو في الخمسين ترتعش أصابعه كأيام المراهقة الأولى وهو يطلب رقمها، تردّد مرتين قبل ان يضغط على زر الهاتف ماذا لو كانت نائمة بجانب زوجها؟ لكن لا يظنها استطاعت ان تنام بعد ما حدث بينهما اليوم، استجمع شجاعته هذه المرة وطلب الرقم، مرت الثواني طويلة كالدهور، هم بقطع الخط ولكن قوة مجهولة تشبثت بالهاتف وتشبثت بصوتها.

رن الهاتف بجانبها، لا رغبة لها في الرد عليه، لابد وأنه عماد يسأل عنها، نظرت إلى شاشة الهاتف، من؟ معز؟ لابد وإنّها جنت، منذ فارقته لم يفارقها الشعور بالعذاب وهاهي الآن تجن، لابد وأنها تخلط الأرقام، الح الهاتف في الرنين، أجابت:

-    السهر من صفات العاشقين فهل انت عاشق؟

هاهي تمازحه ساخرة، وتضحك أيضا تخفي دموعها وعذابها خلف قناع من الحبور الزائف ولكم تبرع في هذه اللعبة.

-    ومن قال لسيدة العمر الجميل أنني لا أعشقها؟

-    وهل حدث أن عشقتني؟

-    وهل حدث أن عشت يوما حقا دون أن أعشقك؟

-    تهاتفني في الثالثة صباحا لتسألني أم لتعترف لي؟

-    أهاتفك لأعلن لك حبي على مسمع من الليل، فالليل كان دائما نصيرا للمحبين، يحفظ سرهم ويخفي أمرهم ويسدل سواده على قصصهم، في الليل أيضا يصبح البوح فنا وعزفا على
المشاعر "وإني أحبّك" ولكني  لا "أخاف التوحد فيك ".

-    تذكر نزار مجددا، ولكن علمتني التجارب أن أتجنب حب الرجال وموج البحار وبوح الليل.

-    لابد وان نزار ثالثنا حبيبتي، إشتقتك ولم استطع للنوم سبيلا، اراك في كل لحظة، في كل نفس، في كل ما يحيط بي لكنك تسكنين جسدي وروحي.

-    ومن قال إنّك لا تسكنني أيضا؟ منذ رأيتك تحرّك في داخلي كل الحب الذي اختزلته منذ سنوات، كأنّني قضيت كل عمري في بنك لتوفير الحب، كنت طوال سنوات أقتّر الحب على نفسي
وأحفظه في دفتر تحسبّا لقدر قد ياتي وقد لا يأتي، وها أن القدر ياتي بك فجاة على غير موعد. لم تفارقني نقاط الإستفهام منذ تركتني وهل تركتني حقا؟

-    أجابها: سيدتي إن العاشق لا يترك حبيبته أبدا هل تعرفين لماذا؟ لأن الحب هو أن تذوب في الآخر حتى تصبح هو، الحب هو ان تصبح انفاسه وقلبه ويداه وجسده. لذلك لم أفارقك طرفة عين منذ ان رأيتك لأوّل مرة في ذلك المقهى.

-    ما أين تاتي بكل هذه الخواطر لكانك قضيت عمرك عاشقا. وضحكت.

لا يدري إن كان أسعده كلامها. أحس بوخزة في ضميره بل لقد قضى عمره جامدا، فقط يحسب ويجمع ويطرح. قرر في لحظة صدق مفاجئة ان يصارحها: " بل لقد قضيت عمري في الجمع والطرح والربح، الحب كان آخر اهتماماتي ولم يخاطرني منذ خمس وعشرين سنة كاملة، حتى جئت."

كان من المفروض ان يثير كلامه غروررها ولكنه أثار حزنها فأي رجل أحبّت. سألته:" من انت حقا؟"

-    قال :" لا أستطيع ان أجيبك وانا معلق بشبكة اتصالات، أين انت الآن؟"

-    ضحكت و أجابته: "في مكان ما، أعيد ترتيب بيتي الداخلي وانظم أدراج عقلي."

-    "بل أنت في مكان ما تتسائلين ما الآتي؟ وإني أسمع صوت الأمواج بجانبك، لا تتحركي من مكانك أن آت إليك حيث أنت."

-    "الآن فقط تأكدت انك مجنون، إنها الثالثة صباحا وانا في الحمّامات"

-    "وإن كنت فوق القمر انا آت إليك لا محالة. فقط لا تنامي حتى آت إليك."

لا يدري ما الذي أصابه، جمع ملابسه في حقيبة صغيرة وترك رسالة قصيرة لملاك وحزمة من الأوراق النقدية وخرج من المنزل. إنه الجنون بعينه، ولكن تعتريه رغبة عارمة في الإعتراف وفي ان يتعرى أمامها. لقد اختنق ولم يعد يطيق أن يواصل نفس الطريق. وعلى أي حال لقد كان دائما رجلا لا يحتمل اللون الرمادي، وأنصاف الأشياء، فليبح لها ولتقبله أو تقتله.لا يدري كيف طوى المسافة، كان كل شيئ فيه يجري إليها صارخا، لاهثا، باكيا، يريدها، يريد ان تعانقه وان يبكي على صدرها. علّه يستريح.

وصل اخيرا، لم تخيب ظنّه نزلت في فندق راق جدا، اكتشف أنها تحب الأفخم في كل شيئ، أعجبه المكان بحميميته وفخامته، أعجبه أيضا عون الإستقبال الذي نظر إليه بشيئ من الريبة عندما طلب منه غرفة تطل على البحر، لابد وان كل عاشق في هذا البلد من ذوي الشبهة وفي الحقيقة أسعده أن يكون مشبوها بها.  صعد إلى غرفته، لبس قميصا خفيفا وسروالا من الجينز، وضع عطره المفضل، حلق ذقنه، يريد أن يعجبها وان يغريها، وإنها الرابعة صباحا. خرج من غرفته، استرق النظر يمينا وشمالا واتجه إلى الطابق الخامس حيث غرفتها. أحس بخفقان قلبه في صدره وسخر من نفسه كأنه في العشرين من عمره وكانه في موعده العشقي الأوّل. طرق الباب بحذر، هاهي تطل من فتحة الباب، في وجهها آثار دموع جفت، وفي عينيها حزن جميل كاحزان الوطن، هاهي أمامه شهية كتفاحة حمراء وحزينة جدا كالبحر. دون شعور منه مدّ يده نحو وجهها مكان الدموع الجافة ومسحها وجد نفسه يحضنها هكذا على مشارف البحر في مفترق العمر وعلى مرأى ومسمع من الألم.

وهاهي تدفن رأسها في صدره كطفلة صغيرة وتحيطه بذراعيها وفي لحظة أحس بانها أمّه وحبيبته ووطنه ومرقده. سالت دموع من عينيه، لم يبك منذ ماتت أمّه وهاهو الآن في حضنها من جديد فليبك ما شاء له القدر فلقد عاد إليه قلبه.

لم تقل شيئا مسحت دموعه بكفها امسكت بيده ودعته للجلوس في الشرفة، تركته للبحر وللصمت وللبوح، أحبّها فوق الحب لأنها تركت له باب الذاكرة مواربا، له الحرية في أن يعترف لها وفي ان يصمت. أحبها لأنها لم تتخذ موقفا له او عليه، تركته لنفسه. من اين يبدأ من الجامعة من الطفولة من لقائه بها؟ فلقائه هي بدايته وما كان يدري حينها أن نهايته ستكون على يدها.
نظر إليها، قسماتها رقيقة ومثيرة في نفس الوقت، في عيناها حزن ورفض وحب وشهوة وفرح وغيوم من الدمع تشي بالانهمار. نظرت إليه، في عينيه شجن وحب وسكر وتردد وخوف وجنون. لا يدريان كم مضى عليهما وهما في حضرة الصمت، فجاة تعالى صوته: حبيبتي، أريد أن احدثك عني، اريدك أن تختاريني أنا، الرجل الحقيقي بشرّه وخيره، بخيباته، باحلامه بكل مافيه. من أين أبدأ وكل العمر نهاية بلا بداية.

ولدت في مدينة جميلة ناعمة كل ما فيها يسير ببطئ، على مشارف جبل زغوان، أبي كان معلما في الأرياف، ننتقل من قرية إلى قرية مع أبي وامي وأخي، أمّي كانت تشتغل أيضا معلمة وكانا يحلان معا في كل قرية كشعاع من نور. انتمى أبواي إلى جيل الإستقلال، كانا قارئين نهمين مشبعان بالمثل والأحلام الثورية، كان يعتبران أن التعليم ومقاومة الجهل هي السبيل الوحيدة للتحرر والرقي وطبعا لم نكن اغنياء، كان يصرفان كل مالهما على الكتب ومساعدة التلاميذ المعوزين بل لقد ظلا يقدمان الدروس المجانية لآخر يوم في حياتهما. لازلت أذكر نقاشتهما الطويلة حول الامبريالية وحقوق العمال والطبقات الكادحة، كان عضوين ناشطين في اتحاد الشغل ولازلت اذكر يوم إيقاف أبي أبان الإضراب العام في جانفي 1978. عامها اتفق ابواي على تقسيم الأدوار وعلى الكفاح البديل خوفا من الإيقافات فكان احدهما يحضر الإجتماعات والأخر يبقى معنا.

كان منزلنا لا يهدأ كخلية نحل، النقابيون مع المعلمين الناشطين والتلاميذ وانا وأخي، كنا نسهر مع مرسال خليفة ومع فيروز وكان أبي يصدح بأغاني الشيخ إمام والسيد درويش كلما اشتدت به الحماسة.

وبدات القراءة باكرا اذكر وأنني في السادسة ابتدائي كنت قد أنهيت كل مجموعة نجيب محفوظ، كنت التهم كل ما تقع عليه يداي، ماركس، أبو حيان التوحيدي، ابن خلدون، كانط، نيتشة وكان بيتنا مكتبة كبرى تفيض بما فيها من جواهر فمن لسان العرب إلى الأغاني وحتى كتب الطب.

أمي كانت أيضا شاعرة وكانت لا تمل من قراءة كل شعراء الكون وقصص حياتهم، قرات الشعر الصوفي، الثوري، الرومانسي وكانت تقف على نفس مسافة العشق من عمر الخيام ومن بودلار. أذكر انها كانت تنام والكتاب بين يديها وفي الصباح كانت توقظنا وتحضر لنا الفطور وتقرا لنا ما تيسر من أشعار.

امي ناعمة كالحرير محادثتها جميلةوذات ذاكرة خارقة، وكانت تكتب خواطر جميلة تقرأها علينا أحيانا وأحيانا أخرى كانت تتجهم حزنا ولما نسالها تقول إنها هموم الوطن.

ابي كان يساريّا مفتونا بماركس وبنظريّة تقاسم الثورة والملكيّة المشتركة، كان يحلم بان تصبح تونس جنّة كبيرة بلا جهل ولا جوع ولا فقر، كان يحلم باراضي كبرى للفلاحين وبمصانع ضخمة تشغل العاطلين ولا يكف عن غناء سيد درويش. أذكر أن أبي قال لنا يوما أن أمي تزوجته لأنه غنّى لها أجمل أغاني الغزل. فعلى أيامهما ماكان الزواج بالثورة بل بكم الحب الذي ينضح به قلبك. لست أدري ولكن أظنهما عاشا للحب ومن اجله وأظنهما ماتا قهرا من ظلم الوطن.

أن تحب وطنك هذه الأيام أصبح نوعا من الدراما، فالكل يحلم بترك هذه البلاد والسفر بعيدا، الآف من الشباب تحملهم قوارب الموت نحو الجنّة الموعودة و التضحية الحقيقية اليوم ان تحب وطنا يحقد عليك ويكرهك ويلفظ أبناءه، فأي بلد أحببت؟

وبدأت أكبر، ولست ادري من كنت أشبه أبي او امي ولربما كنت أشبههما معا كان في من هموم أبي القاسم الشابي ومن رومانسية فرلان ومن قوّة نيتشة، وكنت في حيرة الغزالي والمسعدي، وتفتّح وعي الوطني باكرا، ومنذ المعهد بدأت احضر كل اجتماعات الطلبة و أرافق أبي لاجتماعات اتحاد الشغل. وفي أحداث الخبز تم ايقاف أبي مرّة أخرى وتمت إحالته على التقاعد الوجوبي. سنة 1984 وأنا أدرس بكلية الإقتصاد كانت الجامعة تغلي على أشدها وقيل أنني كنت  من زعماء الطلبة مع ميول قوميّة عربيّة.



رواية بقلم سنيا قرّام الجديدي

شكرا على السعادة