سنيا قرّام الجديدي - Sonia Garram Jedidi

أصبحت في ثلاثة أشهر كل حياتي، وبعضا منّي، وبدات أحلم بان نتزوّج وأن نسافر لباريس معا لإكمال المرحلة الثالثة. من فرط حبّي لها كدت وان لا أقوم باجتياز امتحانات نهاية السنة لندرس معا في العام المقبل. يوما ما عدت إلى المنزل،  وجدتها بجانب امي في بيت الجلوس، رأيتها تتامل ديوان شعر لمحمود درويش كانّها تتامّل خاتما من الماس، ذلك أنّ امّي أهدتها نسختها المموّهة بتوقيع محمود درويش لديوانه،  وكانت أثمن ما تملك امّي. أبي أيضا تبّناها على طريقته الثوريّة، كأحد اولاده وكممثل حي عن البروليتاريا التي يحبّها، وكانا يتحادثان طويلا عن حقوق العمّال والنقابات وكيفية اجبار النظام على منح الشعب مزيدا من الحريّة.

صباح كانت بالنسبة لأبوي النتيجة الحيّة لجهدهما في الأرياف، كانت من اوّل الفتيات التي درست في مدارس ريفية وتمكنت من الحصول على الباكالوريا والقدوم للعاصمة لمواصلة دراستها الجامعيّة. فهمت اليوم ان نجاح صباح كان بالنسبة لهما نجاحا شخصيّا باهرا كانت تونس الجديدة تينع أمامهما بكل شبابها وفتوّتها.

صباح حبيبتي أنا ومدلّلة كل العائلة، لأن امي لم تنجب سوى ولدين انا وأخي وظلّت دائما تحلم بان يكون لها بنت، في غضون أشهر أضحت صباح ابنتها التي لم يمنحها لها زوجها ولكن اهداها لها ابنها. وكنت سعيدا على ايّامها، رغم المضاياقات اليوميّة من بوليس الجامعة، رغم المراقبة السريّة والعلنيّة لبيتنا، رغم المقاطعة العائليّة والإقتصاديّة كما كان يحلو لأبي ان يسمّيها ومع هذا كانت كل الدنيا ملك يميني. لقد كانت صباح حبيبتي.

صباح كانت بالنسبة لي أكثر من امراة جميلة، كانت تونس الجديدة القادمة على مهل، صباح كانت حلم العائلة الذي تحقّق وكانت الخيط الرابط بين الريف والمدينة. صباح هي تونس العميقة ببساطتها وجمالها وبراءتها هذه هي حبيبتي، هذه هي مدينتي، هذا هو وطني.

قال لها : أقسى انواع الحب يا مريم ان تصبح حبيبتك هي مدينتك الحاضرة والقادمة فعندما تحب امراة كما تحب وطنك فتلك نهايتك. لأن حبّها سيبقى يحفر في قلبك ويسكنك ومهما سافرت ومهما رحلت ومهما سكرت لن ترحل من وطنك، لا لأنّه قدرك فحسب، بل لأنه كل شرايينك وكل احاسيسك، وطنك كأمّك لا تختاره ولكن قدرك ان تحبّه وإن آذاك وإن قسى عليك

وإن ذبحك هذا هو وطنك. وصباح لم تكن امرأة فقط بل كانت وطنا. لا تغاري منها يامريم فالنساء كالأوطان طاغون مع شعوبهم وصباح كانت طاغية أيضا.

-    تعلم معز، لا استطيع منع نفسي من أن اغار منها، لم يحدث وان احبّني رجل بهذا القدر الهائل من الإحساس ومن الألم، بعد كل هذه السنوات لم تبرح ذاكرتك، كأنها لا تزال تعيش معك، فهل لازلت تحب وطنك؟

أعجبني سؤالها الموارب اللذي يسترق النظر إلى قلبه، هذه المرأة ذات كبرياء رهيب، لم تساله إن كان لازال يحب صباح سألته عن وطنه، فليلاعبها ما شاءت إذن: لا أحد يتنكر لوطنه إلا قطاع الطرق، حتى اللصوص يحبونه على طريقتهم، صباح صنعت منّي لصّا باكتاف عريضة وواجهة بلوريّة برّاقة ولكنّها بكل استبدادها لم تقتلع من شراييني حب الوطن.

-    فانت تحبّها إذن بطريقة ما إلى اليوم.

هذه المرأة رائعة إلى أقصى حدود الروعة، تعجبني شجاعتها، لا تخاف الأسئلة المفخّخة التي تطرحها، ماذا يا حلوتي لو انفجر الجواب لغما من الكلمات التي قد لا تعجبك وقد لا استردها، سأجيبك حبيبتي عن صدق فهي المرّة الأولى اللتي اتحدث فيها عن صباح التي أحببت دون الم، لقد شفيت منها منذ زمن طويل، منذ أوّل مليار في البنك، كانت تلك طريقتها في اصلاح جراح الماضي كما قالت.

-    انا أحب وطني ولكن صباح لم تعد تلك المرأة المدينة منذ زمن، صباح اليوم الوجه الآخر القبيح للوطن، الوجه الذي من اجل اقتلاعه قامت الثورة.

وضحك عاليا، بكل مرارة فلو كانت الثورة اقتلعت الوجه القبيح للوطن لكان اوّل الأشجار التي قصقصو اوراقها، ولكنّه هاهنا مكانه، كسنديانة تزداد اوراقها اخضرارا ويزداد رصيده في البنك انتفاخا.
قال لها: الثورة لم تقتلع إلا رأس الأخطبوط لأن عفنه أصبح يزكم انوف سادة العالم ولأن كل مساحيق التجميل وعمليات شد الوجه لا تنفع عجوزا في التسعين، ذهب الرأس وبقيت أذرع الأخطبوط عزيزتي، فعن اي ثورة يتحدثون.

-    معز ارجوك، لا تتكلم بكل هذه القسوة الباردة، انا أيضا من الذين راهنوا على الثورة، ولازلت آمل أنه يوما ما سيكون الوطن كما أردنا دائما، وكما حلمنا به ان يكون. انا درست في الجامعة عندما تم تدجينها، كان البوليس الجامعي معنا في قاعات الدرس وفي الأمفيتاياتر. كان كل الطلبة تحت الرقابة حتى أصبحت الجامعة سجنا كبيرا. وددت لو درست في الجامعة في تلك الفترة الجميلة فربّما كانت حياتي ستتغيّر.

سنة 1984 كانت كل الجامعات تغلي، فجأة و مع إعلان حالة الطوارئ بدات حملة من الإيقافات في صفوف الطلبة، تم ايقاف كل زملائي اختفو بين عشيّة وضحاها دون خبر، صباح أيضا اختفت فجأة، جننت وانا أفتّش عنها، كانت عائلتها تسكن في ريف بعيد في مدينة الكاف، أذكر انني لم انم لمدة يومين وانا ابحث عنها، سألت عائلتها، أصدقائها، المستشفيات، لم اترك شبرا إلا وقلّبته بحثا عنها دون جدوى. والداها لم يستغربا من غيابها، قالا إنّها ستعود ككل مرّة، والغريب في الأمر أنهما لم يستغربا من قدومي لبيتهما. استقبلاني بحفاوة، وقالا لي ان صباح دأبت على التنقل في كامل تراب الجمهوريّة وقد تكون في مكان ما. ليلتها داهم البوليس السياسي منزلنا، كانت الساعة الثالثة فجرا، ألقو القبض على أبي وامّي وأخي، تعلقت بيد أحدهم لمّا همّ بصفع امّي فانهال عليّ لكما وضربا حتى أغمي عليّ.

استفقت وسط غرفة رطبة، ذات رائحة عطنة، أحسست بالم في وجهي وجنبي من أثر الضرب، كانت الغرفة مظلمة، رائحة الدم والرطوبة والبول تزكم الأنف، إنّها المرّة الأولى اللتي أسجن فيها، اختنقت، من العفونة ومن الظلام ومن القلق، أين أبي وأمّي وأخي؟ أين صباح؟ ماالذي فعلوه بها؟ هل تعرضت للضرب والحبس؟ هل القو عليها القبض؟ أحسست بالخوف، الخوف على كل من أحببت، لا يهم إن عذبوني، المهم ان لا يمس صباح وعائلتي سوء.

السجن يا مريم تجربة مريرة، تختزل كل سنوات عمرك في حجرة ضيّقة ورطبة، يصبح كل الكون جدرانا لا نهاية لها، ويغمر الظلام كل ذاتك، حتى عندما يشعلون الأضواء تظل ذاتك مظلمة من الداخل، في السجن يكسر شيئ من داخلك، فحتى حين تسترجع حريتك تظل دائما حبيس جدران ذاتك.  في السجن تذكرت أبو العلاء المعرّي في قوله: " أراني في الثلاثة من سجونـي" وكنت مثله سجين الوطن والحب والجسد.

لا ادري كم مرّ عليّ وأنا في الغرفة المظلمة والعطنة ربّما يوم او أسبوع او حتى شهر، لم يكلّمني احد، لم يتم جلبي للتحقيق، كنت أسمع صياح الآخرين تحت التعذيب، أسمع السب والشتم، ثم تختفي الأصوات برهة من الزمن لتعود أقوى. كم مات تحت التعذيب أيامها؟ لا أحد يدري حقا؟ كم من التونسيين فقدو؟ كم قتل في الأحداث؟ لا أحد يعرف. قبرت الحقيقة كما قبرت الثورة والعدالة الإنتقاليّة. فقط عدالة الدولار والمنطق الأقوى للشركات المتعددة الجنسيات هو وحده الغالب.

كسرني السجن، ولأعترف للبوليس السياسي أيامها بانه بوليس محترف في القمع، ذلك انهم حتى لو قتلوني تحت التعذيب ما كنت سأتراجع، كنت رجلا يحيا لأجل مبادئه واحلامه بل كانت المبادئ كل حياتي، البوليس السياسي لم يلمس فيّ شعرة في السجن، لم أضرب، لم أعذّب، لم يفعلوا لي شيئا. كنت قد خرجت من جسدي منذ أن ضربني انصار الحزب في الجامعة، ذلك انّ كل الخلافات الحزبيّة تحل بالعنف. دارت معارك طاحنة بين الإسلاميين واليساريين والقوميين وأنصار الحزب، اخذت منها ما تيّسر من العنف الجسدي والمعنوي فكنت تارة الكافر واخرى نصير الإمبرياليّة وأحيانا الوجه الآخر للاستعمار الجديد الفاشستي. غير انّني لم أكن لا هذا ولا ذاك بل فقط رجلا متطرفا في حب وطنه لذلك لم يكن يعنيني لا اليسار ولا اليمين وحدها تونس تهمّني.

وانتصر عليّ البوليس السياسي، ذات يوم شارفت على الجنون، كان عذابي النفسي وحالة اللاحياة التي كنت فيها أقوى من كل اساليب التعذيب، بدأت أبكي وأبكي وأبكي كما لم أبك قط، ثم بدات بضرب رأسي على الجدار حتى اغمي عليّ. لمّا استفقت للمرّة الثانية كنت في المستشفى وكل ما حولي يحمل اللون الأبيض وعلى رأي نزار كان "الوقت والساعات والأيّام كلّها بيضاء". كانت نوبة جنوني قد هدأت وتركتني حطام انسان، التفت إلى جانبي فوجدت صباح. نزلت دموعي رغما عنّي، دموع القهر والإنكسار،  أردت ان أحضنها ولكن الدوار منعني من ان أضمّها لصدري. مددت يدي لألمس يدها، لم تعرني انتباها. هاهي امامي امرأة اخرى غير المرأة اللتي عرفتها.

فيها شيئ ما قد تغيّر، مكياجها الثقيل، فستانها القصير والعاري الصدر؟ أم شعرها اللذي ازداد احمرارا، كان فيها شيئ من الابتذال ومن اللحم الرخيص لم اره من قبل، حتى رائحتها تغيرت، كان تضع عطرا ثقيلا لم اعهده فيها. شلتني الصدمة، صباح؟

نظرت إلي بعينين فارغتين أراهما لأوّل مرّة  وقالت: معز، أظن انّه آن لك الآن ان تستفيق وتنظر إلى الواقع،  لقد تركك النظام طيلة هذه السنوات تفعل ما تريد ولم يضايقك البوليس السياسي يوما. حسنا لا أنكر انّه بين الحين والآخر كانت تلحقك بعض الإعتداءات ولكنها كانت فقط قرصات صغيرة شفيت منها عادة بعد ايّام.
كان على الحزب ان يترك في الجامعة هامشا من الحريّة، نحن بلد ديمقراطي يحترم المعارضين والرأي الآخر، لنا صورة أمام العالم نحافظ على نقائها، وحدهم المخربون لا مكان لهم بيننا.  اليوم عليك ان تكف عن غبائك وإلاّ...

أخرستني الصدمة، ما علاقة صباح بالبوليس السياسي، وبالنظام؟ وبالحزب؟ صباح التي تطالب بالجامعة الشعبيّة، تتحدث عن العقل؟ صباح التي قادت مظاهرة الطلبة الأسبوع الفارط؟ الأسبوع الفارط ماهو تاريخ اليوم؟ لملمت ما تبقى من كبريائي وسألت صباح: في أي يوم نحن ؟

ضحكت صباح وقالت أنه يوم 26 فيفري 1985، مضى على إيقافك شهران، ولتعلم انك مدين لي بحياتك وحياة عائلتك. لقد طالب الحزب بالافراج عنك وحفظ كل التهم في حقّك على شرط ان تلتزم العقل من الآن فصاعدا. وإلاّ...

تصاعد كل الغضب المكبوت داخلي وصرخت في وجهها أنت تعلمين أنني لا أخاف، فلا تستعملي معي التهديد والوعيد إنّه لن يجديك نفعا. انا أعرف نظامكم الخسيس جيّدا وكل ماهو قادر على فعله ولن أصمت عن الجرائم التي ارتكبتموها في حق هذا الشعب، سأكتب وأكتب وأكتب حتى أفضحكم امام كل العالم.

ضحكت صباح برقة لامتناهية ومسحت على ضمادات رأسي بكف يدها: معز، إلى حد الآن لازال البوليس السياسي يعاملك بكل لطف لأجلي، على أي حال أنا تدخلت لأجل والديك الطيبين، لست ناكرة للجميل إلى هذا الحد، منذ سنوات وهما يحشوان رأسك ورأس أخيك بالقيم والمثل حتى أفسداكما واظن ان السجن لن يصلح من حالهما، وعلى كل فحوادث الطرقات تقتل الآف كل عام، وكثيرون يلقون حتفهم تحت عجلات القطار وآخرون يختفون بلا رجعة، واظن انك ووالدك و أخوك ستسمتعون وأنتم تنظرون إلى السيدة الوالدة الشاعرة في جلسة رومانسيّة مع احد الأصدقاء في الوزارة.

انتفضت من فراشي وهممت بان أصفعها، لكن يدي لم تتحرّك، كانت أحقر من ان ألمسها حتى بصفعة. حرقني تهديدها امّي مع احد الأصدقاء في الوزارة؟ ومنذ متى كان لأمّي أصدقاء في الوزارة؟ لم أفهم تهديديها المبّطن في الإبّان، بصقت على وجهها، وطردتها من غرفتي.  هالتني الصدمة، توقف عقلي عن التفكير، اختلطت كل الصور في ذهني، صباح تضحك، صباح تأكل الكسكسي في منزلنا، أمّي تهدي لصباح ديوانا من الشعر، أخي يلاعبها الرّامي في المطبخ، صباح تخطب في باحة الجامعة، كانت الحلقة الخطأ في سلسلة من الصور اللتي هي كل حياتي.