Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149
شيزوفرينيا #8
لم يمهلها والدها الكثير من الوقت كي تلملم شتاتها... فقد سارع إلى بابها يطرقه طالبا رؤيتها حتى تسكن الطمأنينة قلبه... فهي وتينه الذي لا يكتمل نبضه دونه... لا يستطيع أن يتحمل فكرة وجوده في المنزل في غيابها... وجدها واجمة في مكانها محتارة تكاد نيران الشك تلتهم فؤادها الشقي... إقترب من صغيرته يجس نبض مزاجها المتقلب... قبل جبينها و وضع بين يديها قطعة الشوكولا التي يخصّها بها كل مساء مذ كانت طفلة... شعر بإرتعاش أطرافها فأدرك على الفور أن خطبا ما قد أصابها... ها قد وقع نظره على صندوق الهدية الذي سبق أن أخفاه عنها متعمدا.... لقد حدث ما لم يكن في الحسبان و كٌشف النقاب عن ما أراد له أن يبقى طي النسيان إلى الأبد... قطع صوتها المرتجف حبل الصمت " لماذا أخفيت عني هدية أمي يا أبي؟ لماذا حرمتني من حقي في قراءة ما كتبته من أجلي ؟"....
تجمّد الدم في عروقه... فهو ليس ندّا لهذه المواجهة.... يعلم جيّدا أنه أخطأ في حق كايا حين أخفى عنها أمر هذه الهدية و الرسالة التي رافقتها و لكن لم يكن أمامه خيار آخر... ربما يبدو الأمر بالنسبة للآخرين شرّا عبثيا و قسوة بالغة و لكن لهذا الرجل مبرراته.... كان و مازال يسعى إلى حماية إبنته... لا حق لغيره، و خاصة لأمها التي هجرتها ، في حبها... يذكر جيّدا خواء الروح الذي أصابه، و مازال، بسبب رحيل تلك التي خالها حبيبة العمر و رفيقة البداية والنهاية... لا يمكن أن ينسى، حتى و إن حاول ، الأسى الذي أصبح ثوب قلبه المفضل بعد القطيعة بينه و بين أندريا... لملم شتات نفسه و حرّر أنفاسه من إختناقها كي يتسنى له الحديث و مواجهة كايا التي يلف الضياع كيانها المعذّب... إبتعد و لاح بوجهه عنها... فهو لن يستطيع مواجهة نظراتها الدامعة.... شبك يديه أسفل ظهره في شكل تقاطع يدل على بركان الغضب و شلال الخوف اللذان تداخلا في أعماق وجدانه... كان صوت شهقاتها مسموعا... إنها تبكي و هو الذي راهن بحياته
و بكل ما أوتي من قوة كي يمنع الدمع من زيارة مقلتيها... تغلب أخيرا على الزلزال الذي خض مشاعره خضا و خاطبها قائلا : " إعذريني يا إبنتي، لم يكن أمامي خيار آخر... لقد أصابني رعب لا يوصف حين وصلت هدية أمك... لقد سكنني هاجس هجرانك لي
و ذهابك عني..." غالب ألمه و الدمع و لكن الهزيمة كانت نصيبه هذه المرة... لقد فقد صلابته أمام هذا الموقف الذي وضعته فيه الأقدار... إسترسل في بكاء شديد دون قرار منه... إقتربت منه بجسدها المرتجف
و جفناها المتورمان.... عانقته من الخلف كما كانت تفعل حين كانت صغيرة... إتكأت برأسها المليء بالصراعات على كتفه... إستندت عليه بثقل روحها المتعبة كما كانت تفعل و ستفعل دوما... كانت حركتها هذه كفيلة بجعل والدها يدرك ما تريد صغيرته أن تخبره به... هي تريد منه أن يكون على يقين بأنها لن تتركه... لن تتخلى عنه مهما حدث...
حاول كلاهما أن يتعامل مع ما حصل و كأنه لم يكن خلال ما تبقى من ليلة عصيبة جدا.... تناولا العشاء سوية و شاهدا الأخبار كما جرت العادة.... كانت حركة عقارب الساعة ثقيلة عليهما بنفس الدرجة... فرغبة فؤاد في أن يهرب بحزنه إلى جدران غرفته لا تقل عن توق كايا إلى إطلاق العنان لكآبتها التي تكاد تقطع رقبتها من الوريد إلى الوريد.... كانا يتوسلان خفية لعقارب الساعة أن أسرعي حتى يحل موعد الخلود إلى النوم.... و ها أن الوقت المقيت يتكرم عليهما أخيرا... ها أن الساعة تشير إلى العاشرة ليلا و حانت لحظة إنفراد كل منهما بنفسه بعد ما حدث من شرخ جعل من التصدعات القديمة تعود إلى الحياة....
دلفت كايا إلى غرفتها.... أخذت تجيل بصرها في أرجائها و كأنّها تبحث بين أشيائها عن طوق نجاة... عادت إلى سريرها و غرست رأسها بين الوسائد باحثة بهذه الحركة الطفولية عن ملاذ من الشتات الذي ألم بها... شعرت بحاجة ملحة للقاء الدكتور عمر... لا أحد غيره قادر على مساعدتها...
يتبع..
رواية منال عبد الوهاب الأخضر - رسمة شاكر عكروتي
Website Design Brisbane