وغدٌ

histoire-violIkram Chebbi - إكرام الشابي

خرجت مسرعة تتأبّط حقيبة يدها، تلتفت يمنة ويسرة علها تجد سيارةأجرة تستقلها،الوقت متأخّر و الظلام حالك،ليلة من ليالي ديسمبر الباردة ،رذاذ مطر خفيف يلفح وجهها ،تجمدت أصابعها الصغيرة المنتفخة من عمل اليوم، زاد ألم بطنها عندما اقتحم الهواء البارد جسدها ،هي العادة الشهرية اللعينة داهمتها في ساعات العمل الصباحية و اعتصرها الألم فطلبت من صاحب الورشة أن ترتاح ساعة ثم تعود،ذلك الركيك ،صاحب البطن المنتفخة و الرأس الكبيرة و العينين البازغتين والشفاه الغليظة أمرهاأن تتم عملها بعد أن غادر الجميع و إلا اقتطع من راتبها مهلة الراحة!

وغدٌ،عن أي راتب يتحدث؟لا يكفي أكلها و شربها و أجرة الغرفة المستأجرة و مصاريف النقل و بعض الهدايا إن  زارت أهلها آخر الشهر في بلدتها البعيدة.

تعبت من الانتظار ،لا حافلة و لاسيارة أجرة ،هكذا هم البؤساء لا يدللون أنفسهم وإن فكّروا وقت الحاجة الأكيدة في فعل ذلك تُسدّ كل الأبواب،لطالما أحبت أن تستيقظ صباحا على مهلها ترتدي ثيابها و تشرب قهوتها ثم تغادر في سيارة  أجرة كما يفعلن أخريات ،تجلس من الخلف تستمتع بالطريق مع صوت فيروز يعلو من الراديو و تنظر إلى الأجساد متلاصقة في حافلة تمر حذوها!لكن هيهات ها قد اختفت سيارات الأجرة ليلا لا صباحا و بات حلمها صنتمترات تقف فيها على قدم واحدة حتى  في ارضية حافلة!!!!

لن تقف أكثر ،ستجمع من تبقى من قوتها التي انهكها التعب والوجع ،و تتحامل على نفسها و تسير على الأقدام ،هكذا هي الحياة ،هناك من تفتح عينيها في بيتٍ دافئ يحتضنها أب يدللها ،لا يطلب منها غير تركيز في الجامعة و درجات عالية،يقسم وقته ليأخذها صباحا للدراسة و يعود بها مساء ا و لا ينسى درس الموسيقى و ساعات تدريبها الرياضية و حفلة عيد ميلاد صديقتها المقربة! و هناك من مثلها ،والدها المسكين لم يقدر على توفير مستلزمات البيت ،و دواء جدتها المريضة و مصروف تعليف البقرة الوحيدة التي هي كل رزقه وقوته و قوت عائلته،مكرهة هي على العمل ،على الخروج في سن صغيرة لمعترك الحياة ،على دفن حلمها بأن تكون طبيبة أو محامية في سابع أرض و تستسلم لواقع مرير.

أسرعت أكثر ،الطريق خالية سوى من أصوات نباح كلاب يعلو،و سيارات تمرّ بين الحين و الآخر في سرعة جنونية ،و أغصان أشجار تتمايل مع الرياح!أحست خطوات خلفها ،تسارعت دقات قلبها و ارتعشت مفاصلها ،واصلت دون أن تلتفت إلى الوراء ،خُيّل لها أنه يلاحقها ،انعكس ظله عندما مرت سيارة وأضاء نورها المكان ،أحدهم خلفها ،تلت بعض الآيات القرآنية و مشت بأقصى سرعتها ،لكنّ  يدا جذبتها بقوّة وعنف شديدين ،جذبتها لتجد نفسها لوهلة على الأرض تحت شجرة فارعة جنب الطريق!

تعالى صياحها و ارتعش بدنها ،دفعته وهي تقنع نفسها أن يكون هدفه الحقيبة "أتركني أرجوك،هاهي حقيبتي خذها واترك سراحي"

كأنه لم يستمع لما قالت أو لايريد،طالت يده زرار قميصها ثم سرعان ما نفذ صبره فقطّعه بحركة واحدة ،ماتت ألف مرّة و صرخت ألفا أخرى و هو يلتمس صدرها و يعتصره،يقبلها غصبا بجنون و وحشية و اذا اعترضته يداها شل حركتهما بكفه الكبيرة ،سالت دموعها غزيزة و هي تدفعه و لا تقدر ،تخدشه و لايحسّ ،انحبس الهواء و بدنه الضخم يلتصق به و رائحة العرق الممتزجة بالكحول تسد انفها،انقض عليها كفريسة ضعيفة و نهش لحمها بأنياب حادة ،اختنقت تحت جسده و خارت قواها و تباطأت أنفاسها كلما زاد ارتجاجه فوق جسمها المنهار إلى أن أغمي عليها و غابت عن الوعي!

الحقير،النذل،ما اكترث ،جلس إلى جوارها،أشعل سيجارة دخنها و هو يفتش داخل حقيبتها ،حمل دنانيرها المعدودة ورحل ،رحل ليتركها و ألمها،رحل لتبقى مرمية هناك تتخبط في خليط دمائها،خليط حرمه شرع و جمعه هو!تركها تنزف لساعات ،تنزف دما ودمعا ،تركها جثة هامدة على الأرض ،تركها حكاية فزع ترويها الأمهات لبناتهن حتى لا يتأخرن،تكتبها الصحف في صفحة الجرائم،تركها علقما في حلق عائلة لا تعلم تبكي فراق بنتها البكر أم  تلعن شرفها المهدور.تركها قصة وجع !

إكرام الشابي

وغدٌ