وطني يشتكي.. وطني عليل..

9-avril-1938-tunisie
Yasmine Hasni - ياسمين حسني

أ نبكي وطنا ما يزال يلتقط الأنفاس بصعوبة؟

أ نقبل عزاء الغرباء أوان نُجرح والجرح عميق؟

أ لنا في الأرض الرحبة ربعٌ يحاذي وطننا جمالا وإن عمّت التلوث المكان, دفئا و إن حل بنا البرد اللاّذع القمطرير, حنانا وإن كُسي صدره الواسع أسلاكا شائكة تدمي المقترب منها؟

أ نتخلّى على مطمعة للأعداء, على بلد أبى أن يكون مستعمرا سياسة و فكرا؟



أ نترك الهبة التي حررها أسلافنا المجاهدون فقُدمت لنا على طبق من ذهب؟

أ نحن شعب نستحق حقا استيداع الأمانة يوما؟ فبلادنا كانت و لا تزال مسؤولية تطوق أعناقنا..

أ لنا في الهروب مبرر, ربما فرار مؤقت من عالم الفوضى الذي اجتاح وطننا؟

أ نتعلل بحالتك البائسة أيها الوطن الغالي و فيك الأسعار أغلى؟

أنّى لنا أن نواري وجوهنا الشاحبة من أعلام التاريخ, من شهداء لونوا العلم أحمر الدم و بسطوا الأرض لتكون لنا ملجأ و حاميا؟

أ لنا في هذا العالم المُتسعِ مَصر يستقبل أمثالنا من اللاجئين, من الباحثين عن وطن هادئ يستبنينا؟

أ أمس عنوان المهاجر أسمى من أن أتخذ شهادة النضال و أدعيه إدّعاء؟

أو الموت غدا منهجا أقصر لمحو العذاب؟.. و ازدواجية الألم تستمر يا بلادي.. عذاب الإنتحار و عذاب فقدانك يا وطني..

..أفتقدك شديدا

..هَفَتَ صوتك بين صيحات السياسيين

..احترقتَ بين ألسنة نار المخربين

..ضعتَ بين جلبة المتظاهرين

..غرقتَ بين فوضى الناهبين و السارقين

..مرضتَ لكثرة تناول سموم الأطباء الكاذبين

..أ وطناه

..أنوحك يا عزيزي و أرثيك

..فقد أعلَيتُ أنين حنجرتي

رفعتُ صوتاً مكتوما في صدري.. ركضتُ حينا في شارع الحبيب بو رقيبة و استنشقت.. استنشقت بدل رائحة الياسمين الشذية غازا رديئا.. فخنقتُ.. و ملئت الرئتان أُفّاح الثورة الفتية

سارعت خطاي أوان رأيت الكل يهرول لا أعرف أين أولّي وقتها.. إلاّ ساقاي, هي وحدها تدري أنّى تخبؤني..

زرتك يومها يا وطني حاملة باقة أزهار زكية يسارا كعربون محبة و مودة, تسلحت بآلة للتصوير يمينا و حملت في بطني إبناً ينشأ رويدا رويدا..

عدت من ديار الغربة مهرولة كي أحييك أيها الوطن المفدّى, فقد كنتُ من جملة الدارسين و العاملين بعيدا عنك.. عن جناحك.. لأنك لم توفر لنا من العيش قليل الكرم..

هجرتك طوال سنين أشابت خصلة من شعري..

و لكنني عدت الآن.. لست وحيدا, بل معي عينة من الجيل القادم.. سأعلمه حبك كما علمني من مات من أجلك.. كما أشار عليّ فرحات حشاد في نضاله و عبد العزيز الثعالبي في كفاحه
والبشير صفر في مقولاته و الطاهر الحداد في كتبه.. مثلما ردد الشابي على أسماعي أغاني الحياة أياما خلت..

يا وطن.. إن كنت رجلا لتزوجتك.. أ ترضني كذلك؟

بيد أنك استقبلتني استقبالا لم يكن في الحسبان..

نسيتني.. و أعلنت الحداد على المظلومين أمثالي..

أ أعيبك يا وطني أم العيب في من لبس قناع المواطنة مغالطةً؟

أ أواريك الثرى و قد ضعت بين طيات فؤادي؟

حِرت و حار دليلي..

أ أمدحك مجددا رغم عجزي و عجزك أم أَهْجيك و النفس تأبى أن تفعل ذلك؟

و كل خوفي يا بلادي أن يكون ما يجري بين كنفك واقع مرير ضاه الكابوس القاض للمضاجع لوعةً..

أعتذر يا وطني.. أهديتك وردا فوّاحا فأرجعت الهدية جوعا للبطن, إفلاسا للجيب, إهدارا للدم, تهميشا للفقير, إشعالا للفتنة..

عذرا يا وطني, لم أعلّق صفة المواطنة الى الابد و لكنني سأستوقفها للحظات و سأسألها مريرا..

اعذرني يا وطني.. فاليوم عزمت الرحيل..

الرحيل معك.. سأصنع عالما مماثلا و نرحل سوية الى المجهول..

فبقاؤك يا وطني بين أيادي الغادرين و المنافقين يدمي قلبي و يعصره..

سنحزم أمتعتنا و أغراضنا و نغادر تحت أنظار الكل لا خجلا و حياء..

فنحن لن نستسلم لهم, لأعدائك أيها الكريم..

و لكنهم يتحاملون عليك و نَسُوا أنهم لولاك لما صاروا كذا..

دفنوك و لا تزال حيا ترزق أيها المسكين..

!و أجبروني أن أعيش غريبا في وطني, أن أتجرع مرارة الغربة بين أحضانك يا وطني



ياسمين حسني
وطني يشتكي.. وطني عليل..