لوكايل
Wajdi Chrif - وجدي الشريف
ليلة من ليالي كانون الثّاني. كان فيها الجوّ ممطرا والطّقس باردا. الظّلام يعمّ المكان و العتمة تملئ البيت. لا شيئ ينير أركانه غير وجهها المقمر المتسلل من تحت الفراش الصّوفي. وجها يصارع السّحب السّوداء التي تلوّن الغرفة. حتّى ذاك القنديل الزّيتي النّاعس المعلّق فوق رأسها، لا يسمن و لا يغني من ضوء. فالشيئ الوحيد الجيّد الذي يقوم به، أنّه يؤنسها في غربة اللّيل بحديث موشوش بين الناّر و الفتيل.
كرسيّ خشبيّ قديم، وليد شجرة البلّوط الشّامخة. شاغرا حذو السّرير٬ أصله العريق يترجم صموده أمام البرد القارس في إنتظار جالسه ككل ليلة إلى أن يأتي عند وجه الفجر كما عودّه.
فالعادة تنسي أهوال المكان و الزّمان بأمل منشود قد يتكرّر وقد لا يتكرّر.
فالعادة تنسي أهوال المكان و الزّمان بأمل منشود قد يتكرّر وقد لا يتكرّر.
سانفونية " العالم الجديد" " لدفوراك " تتعالى من ذلك الصّحن الدّائري المهاجر في رحلة مع الأنغام حول نفسه ،و كأنه أحد المتصوّفين المحلّقين في السّماء بحثا عن ذاك الخيط الأزلي المتّصل بالخالق. سانفونية تتعالى من خلف صفير الرّياح المتسللة من شقوق النّافذة المطلّة على الشّارع. أفق يطلّ على أفق.
الكلّ هنا في حالة غياب مؤقّت بحثا عن وجود أزلي مرغوب؛ فالهرّة الملقاة على البساط تغطّ في نوم عميق، السّتائر في سفر مع الرّيح، قارورة "الفودكا" و كوب الماء و فُتاة من الخبز و الجبن متروكون على المنضدة. غياب تام.فالغياب نوع من أنواع السفر إلى عالم نحلم به، أو نوع من أنواع الهروب من واقع لا نريد عيشه بكل التفاصيل الموجودة، هو هروب إلى أحظان أحلام و خيال بتفاصيل نريدها نحن....
وجهها الدّائري ملتفت إلى النّافذة ،و عيناها رغم الهالات السّوداء تكاد تثقب البلّور العارق و المبلّل بالمطر. عرق و بلّل هي مفارقة تعكس ماهي عليه في تلك الحال؛ جسد بارد يشتعل شوقا للقاء طالما إنتظرته. هي ملتفتة متجاهلة كل ما حولها. فهي لا تريد رؤية ذاك الكرسي الجامد المتحرّك. هي ترغب في أمل الحياة بإستماعها لموسيقى الصّحن الدّائري ممزوجة بموسيقى أوركاسترا الطّبيعة بقيادة الرّيح و عزف الرّعد و المطر. الكرسي يذكّرها بتلك اللّيلة البأساء...التي جعلتها طريحة الفراش و مقعدة. تلك اللّيلة حين رأتهما مع بعضهما في الشّارع الّذي يشهد أوّل كلمة حبّ قالها لها. الذي يشهد قصّة حبّهما منذ الصغر و يكتبها بحصى الرّصيف عل المعبّد ....
رأته يقبّلها بشغفٍ و هي التي تريده دوما أن يكون شغوفا بها هي فقط. في الحقيقة ، ليست القبلة ما أثار غيرتها، فهي متعوّدة منذ الطفولة أن تراه مع غيرها من بنات الحي، ولكن جوّ الأحداث دغدغ غيرتها و أنانيتها. فالرّصيف كان متحمّما بندى الضّباب الذي كسى الشّارع تحت قمر تنقصه ليلة ليكتمل. الإطار ذكّرها ببحيرة البجع التي دائما يحدثها عنها و يسمعان سانفونيتها على عشب التلة وراء الحي... تلك اليلة حين ألقت بنفسها أمام السّيارة لتنقذه.بعدما فرغ من تقبيل عشيقته و لم يلتفت... ليس جرّاء حميمية اللقاء و لا لأن باله ذهب مع القبلة، و إنما لأجلها هي ، فلقد كان يفكّر فيها هي وقتها، وما تفعل تراها؟ و ماذا لو أحسّت به مع أخرى؟... وهي التي أنقذته حينها من الموت لتصبح مقعدة....
لا تريد أن تتذكر أنّها اللّيلة تودّع الطّبيعة ،و أنّ الصّبح ستكون في عالم جديد. السّرطان طريقها إلى هناك على متن كرسيّها المتحرّك....
مفتاح دار في قفل الباب. إنّه هو صديق الكرسيّ الخشبيّ. إنّه في موعده الّليلة أيضا و لا يدري الكرسيّ رغم فرحه بقدوم جالسه لأنّه يعاني البرد، أَيَفِي صاحبه بوعده اللّيلة القادمة أم سيخلف الموعد؟... أدارت وجهها الجميل المقمر رغم آثار المرض. تستقبله بعينين ترقصان حبّا. نعم إنّها تحبّه جدّا، و تعلم أنّه زير نساء. و أنّه كان يقضّي أوّل اللّيل مع أخرى. وأنّه يحتسي قهوة بالنّهار مع غيرها، و أنّه يصطحب أخريات إلى البحر عند المساء... كيف لا وهو وسيم و جذّاب و يفقه الرومانسية منذ الصّغر...
إنّها تعرفه منذ نعومة الأظافر.
تقدّم نحوها مقبِّلا إيّاها من الجبين. و هي التي تريد أكثر من قبلة على الجبين... تعرف أنّه يعشق " الفودكا " كما يعشق النّساء. فلقد أحضرت واحدة أوصت بها أحد الجيران المهاجرين في أوروبا، خصّيصا من باريس. للإحتفال بعيد حبهما الأوّل.. فالليلة تقابل عيد أوّل كلمة حبّ و أوّل قبلة.... لقد أعدّتها بنفسها إليه. فباريس مدينة العشّاق. و " الفودكا " مشروب الأحبّة و العاشقين. و هي التي تعشقه إلى حد الجنون، وهي التي تريد أن تعدّ له كل ما يعشق بنفسها.
طلبت منه ليلة رومانسية تقتل حبّا. طلبت منه أيّاما مضت. طلبت منه أن يرسم لها لوحة غرام منه تعلّمته. إنّها تعلم أيضا أنّه يحبّها حتّى الموت.... حتّى الموت.... حتّى الموت....
طلبت منه أن يدهن كل جسدها بالنّبيذ، و أن يلعق كل ركن منه و كل تفاصيله، من الأعلى نزولا إلى القدمين.
الطّبيعة تعزف وهو يلعق جسدها المغسول بالنّبيذ... موت يعلن موت، و موت يخرج من موت... حرارة تنبّئ بعاصفة برد... يلعق إلى أن مات تحت قدميها. " الفودكا " مخلوطة سمّ....
أنغام سانفونية العالم الجديد وسانفونية الطّبيعة... و إبتسامة تعلوا محيّاها، خرجت من جسد بارد هامد قد أعلن الصّباح مرقده الأبدي.... كلّها تعلن إنتصارا بالموت.... إنكسر بلّور النّافذة.أُطفئ القنديل.طار السّتار.سقط كوب الماء على الهرّة فهلعت... و الظلمة عمّت المكان...
لقد إنتهى كما كانت تريد دوما. لقد مات عليها و إليها. إليها فقط.... لقد ذهبت به إلى عالمها الجديد... إلى حيث تريد...
كل سكّان حي " لوُكايل " يعلمون قصّتهما منذ الطفولة. كلّهم يتحدّثون عمّا حدث. الحادثة صارت حديث الحيّ أينما ذهبت... الكل يتحدّث و لا يعلمون من الذي قتل من؟ أكبرياء إمرأة ضعيفة تغار على من تحب؟ أم أنانية مشاعر أنثى تملك كل ما في من تحب؟ أم الغريزة أخذت صاحبها إلى أين تحب؟؟
فالكبرياء و الأنانية و الغريزة كلّها أدوات قتل في معاقل العشق. إمّا أن تخرج قاتلا أو مقتولا، و إمّا أن تعيش عبدا سجينا أبد الدّهر.
وجدي الشريف
Website Design Brisbane