كالعادة؟
Jihen El Beshry - جيهان البشري
لا أعلم كم من الوقت مرّ وأنا هنا، أعني مركونة في آخر المقهى على الكرسيّ الوحيد حول الطّاولة .. الضّباب في الخارج وصوت أميمة خليل كمن يحفر في قلبك عميقاً ويحثّك على البكاء .
يأتي النّادل يسألني كالعادة؟ لا ألتفت .. يتنحنح ليثير إنتباهي، يعيد السّؤال من جديد كالعادة؟ أهزّ رأسي موافقةً على كلامه؛
يغيب لدقائق ليعود حاملاً معه طلبِي، يضعه على الطّاولة ويقول تفضّلي .. أوجّه كلّي ناحيته دون أن أصوّب له عيناي وأشكره،
صوتٌ آخر يناديه من بعيد يستأذنني ويذهب ..
آخذ كوب القهوة بين يديّ، أتحسّس حرارته يشعرني قليلاً بدفئهما ..
أعود من جديد لأنظر للخارج، الضّباب يصنع غشاوةً على النّافذة، أسافر معها إلى الشّتاء الماضِي، تماماً كذكرى هذا اليوم ..
كنّا ( كم مُتعبة هذه الكلمة، أن أقول عن حكايتنا كانت، أن تصبح مجرّد ذكرى، أن أقول عنّا كنّا ) نجلس على طرف الرّصيف، اليوم غائمٌ جدّاً منذر بسقوط المطر، كنت أحضن كتاباً لغادة السمّان وضعته بيننا، أخذته أنت قلّبت الصفحات أغلقته ووضعته بين يديّ وقلت إفتحي أيّ صفحة وإقرإي .. بدأت
" لو قلت أنّ مجرد وجودِي قريبة يسعدك مجرّد إحساسك بأنّي أهتف بإسمك في أعماق أعماق صمتى يرضيك. "
أكملت أنت " لو قلت لي بعينين هادئتين كبحيرة الأصيل " أحبّك يا صغيرتي " لذاب صقيعي " .. ذهلتُ في البداية، أعلم أنّك لا تحبّ كثيراً الكتب، هذا الكتاب يعني لي الكثير، كان من أوّل الكتب التّي أشتريها ومنه بدأت رحلة حبّي مع غادة؛ إلتفت إليك كان في عينيك شئ غريبٌ كأنّه يقول لي نحن نأخذ طباعنا ممّن نحبّهم، ما إن تعلّقنا بهم حتّى أصبحنا نشبههم .. كانت السّماء ساعتها تعلن أنّ الفرح أتى، قطرات مطر تتكتك على رؤوسنا وعلى أوراق الشّجر تخبرنا بأنّنا على موعد مع الفرح ..
حملت الكتاب دسسته تحت معطفك، وقفت، شبكت يديك ببعضهما إتّكأت على جذع الشّجرة، ونظرت إليّ .. فهمت ما تقصده، لا لغة أقوى من لغة العيون بين العشّاق؛ وقفت وإتّجهت ناحيتك ..
* هيّا ..
مسكت يدي، ملأت المطارح الفارغة بين أصابعي، ضغطت بقوّة على يدي كمن يخاف أن تضيع منه أشياؤه الثّمينة .. رحنا نكتشف المدينة كمن يكتشفها لأوّل مرٌة رغم أنّنا نحفظها كخطوط يدينا، المطر يثير فينا شهوة الجنون، رحنا نتمشّى تحته، صمتٌ يخيّم علينا وحده الهوى يتكلّم، كنّا نشعر بدقّات قلبينا، كنّا نهرول ما إن تقوى حدّة المطر حتّى نتعثّر ونخفّف في سرعة مشينا حين تخفّ أيضاً لنشعر بالهواء يتغلغل في مسامنا .. شعرت ببرد يكتسي عظامِي، أدخلت يديّ داخل جيوب معطفك، وقفت نزعت المعطف ووضعته على كتفيّ، لم نكن نهتمّ لنظرات المارّة التّي تكاد تخترقنا، كان الجميع يحمل مظلّات عدانا، أردنا إستشعار جمال اللّحظة؛ المطر أيضاً مؤقّت كما نحن .. شعرتَ بالعيون المزدحمة على المعطف الكبير الذّي يحتويني، طوّقتني كرجلٍ يباهي بأجمل أشيائه، كنت أسمعك تقول نعم هذا المعطف لي وهذه الأنثى أيضاً لي ..
توقّف المطر، وإنتهى معه مشوارنا الجميل على أعتاب مقهى لأوّل مرّة نكتشفه، نحن المولعين جدّاً بإكتشاف الأشياء الجديدة، إتّفقنا أن ندخله حتّى نجفّ فليس من الممكن العودة إلى البيت ونحن بهذه الحالة.. دلفنا، إعترضنا النّادل، إبتسم إبتسامة خفيفة بعدها قال " مجانين أنتم العشّاق. "؛ أخذنا إلى جانب المدفأة، قرّب لنا الطّاولة، أحضر كوبين من القهوة، شكرناه بإمتنانِ وأخبرناه بأنّ المقهى مُذهل، وهذه أوّل مرّة نكتشفه،
إبتسم إبتسامة خفيفة كالعادة؛ قال لا تفترقوا
وتركنا ..
أحدهم يطبطب على كتفِي، إلتفتت لأجد النّادل أمامِي، مسحت دمعتي بطرف قميصِي، ضحكت له ضحكة منكسرة تخفِي ورائها الكثير؛
سألنِي : " هل يمكن أن أجلس ؟ "
أجبت " طبعاً تفضّل .. "
أخذ كرسيّاً من الجهة الأخرى، وضعه قبالتِي ودون أيّ تردّد سألني
" هل إفترقتما ؟؟ كنتما بحبّكما البريء تبعثان في النّفس الطّمأنينة على أنّ في هذه الحياة ما يستحقّ أن يعاش لأجله .. "
خفت في البداية، كيف لأحدهم أن يخترقني بسؤال كهذا؟ بماذا سأجيبه؟ حاولت التهرّب لكنّني لم أكن أجيده ..
" ها أنا أعود إلى نفس المكان، في نفس اليوم، كلّ شئ موجود، الطّاولة التّي جمعت صوت ضحكاتنا، المدفأة، أنت الذّي قلت لنا لا تتفرّقوا، كلّ شئ موجود عداه هو، كلّ شئ على حاله عدا قلبِي .. "
جيهان البشري
Website Design Brisbane