فيض الذاكرة بين المخيال الشخصي للفنان "ذاته" و روح الإبداع الذي يحاصره حاملا بين طياته هاجس المجتمع ...

فلم يكن الفنان التشكيلي ' الصادق الطويل ' مجرد رسام يحمل فرشاة تتنقل بين محامل متعددة ولم يكن أيضا وليد الصدفة بل كانت مجمل اعماله هاته المعروضة أمامنا سلفا و الموسومة بمعرض فيض الذاكرة هي  مرحلة تأسيسية لفن الذاكرة و ترجمته من تشكله اللامرئي الذي يحاصر ذهن الفنان الى المرئي الملموس ، نظرا وأن اي مسار فني للمبدع أو الباحث في الفنون والجماليات لابد وأن يكون ذا نتاج مبني على أسس بحثية وعلمية واضحة يرتكز عليها وهو ما تجلى لنا من خلال هذا الكم الهائل من اللوحات .

ولا نبخل  بكلمة صدق للفنان بأنه كان مولعا بالبحث والغوص في ثنايا الفكرة "الذاكرة" ومحاولة ترجمتها من خلال الاقتراب من المكان اي مسقط رأسه أين ترعرع وانبنت لديه لبنات الابداع الأولى فحاول جاهدا ان يمسرح او بالأحرى يجسد مرحلة طفولته في فترة زمنية محددة من خلال هذه اللوحات التشكيلية التي تكشف عن نقل مشاهد تاريخية من الحياة اليومية او متعلقة بالأنشطة اليومية التي يقوم بها الكائن البشري ولعل هذا ما ترجم عمق الواقع الذي عايشه الفنان وعبر كذلك عن حنينه لتلك الرقعة الجغرافية .

فيض الذاكرة بين النزف الابداعي للفنان و عمق الادراك لديه من خلال اختياره لألوان حارة وقوية تحاكي البيئة الجنوبية من حيث القوة والصلابة حتى وهو ينقل حنينه لم يضع ألوان تعبر عن ضعف واستسلام وانما ظل متشبثا بتلك الصلابة الشرقية على مستوى اعتنائه بالالوان بإعتبار أن جودة المادة اللونية و حسن انتقائها و إعدادها يدويا او صناعيا يؤثر إيجابيا في نوعية العمل الفني من حيث مضمونه الجمالي والرمزي التعبيري .

تبرز علاقة التمثيل بالرمز من خلال لحظة استحضار الفنان لصور مخيالية تتعلق بواقعه من ناحية و ما مر بيه الفنان خلال مرحلة طفولته وهو من ناحية أخرى يعكس واقع اي منتمي لبيئته اي نقل للفكر الجمعي للجماعة من خلال أسلحته الفنية المتمثلة في التجريد والاختزال مدعمة بصدق البحث لتشكيل علاقة موضوعية مع المكونات الاخرى بهدف تشظية اللوحات إلى قطع من الدلالات او الى مساحات لونية متعددة ومن ثم جمع الاشتات و تصفيفها و إعادة بثها من جديد لتشكل معنى مركزي يحوم حول فيض الذاكرة و معاني اخرى يتوصل الى الباحث من خلال توظيف خياله في فك شفرات هذه اللوحات ، حيث يقول بودلير في هذا الصدد " ان الخيال يزيح الخليقة كلها جانبا ثم يجمع الاجزاء و يركبها معا وفقا لقوانين تنبع من أعماق النفس لينشىء منها عالما جديدا" وهكذا هيا اللوحات التي بين أيدينا سفيرة لأكثر من معنى و أكثر .

إن ما نلمحه جليا منذ اول وهلة حيال هذه اللوحات هو الحضور المكثف للفضاء الجبلي بجل مكوناته الاساسية ولعل تلك المكونات الحاضرة دون غيرها تعمد الفنان ان تكون هيا لا غيرها ربما لما تعنيه لديه خاصة وان  احتفائه

بالمكان كأيقونة ما يكشف عن تعلق الفنان بالمكان و تجذره لانتمائه ومسقط رأسه وعل هذا ما دفعه لترجمة هذا التعلق على محامل بصرية مستندا في ذلك على المقولة الشهيرة المنادية ب " من لم ينتصر لثقافته يموت بردا " وعليه قد احتفى الفنان بأثر الطفولة التي عاشها و عبق المكان الذي حاصره ولم يستطع الانعتاق منه الا من خلال هذه اللوحات التي تبدو مجتمعة فيما بينها لوحة واحدة تترجم حياة الفنان و بدائيته ، اذ أننا كقارئين لأثار فنية لا يمكننا المرور على هذه الاعمال مرور الكرام دون التدقيق فيها و ربط الفعل بالفعل حيث يتبين للمتمعن فيها أنها لا تخلو من جانب رمزي وانما متوغلة في الرمز و الثنائيات المتمثلة في المرئي واللامرئي سواء على مستوى توظيف اللون أو توزيع الأشكال أو تشكل المضمون و بين الجلي الذي في متناول القارئ العادي و الخفي الذي يهم المتوغل في أثر الاعمال وطبيعة تشكلها في علاقة بالمكان والزمان .

وبالتالي كان هذا المعرض فيض الذاكرة للفنان التشكيلي الصادق الطويل بمثابة الملحمة المتكاملة .