حلمة-

reveil-amourKhitem Hfaiedh - ختام حفيّظ

تتمطّى في سريرها بألم , لا يزال جسدها الوهن يبكي من ثقل زبون أمس , تشعل سيجارتها الصباحيّة بتعب ثمّ ترمقها باستصغار : حتّى هذه السيجارة التافهة تقتات من تنهداتها , تطمع في مذاق شفتيها ..

تقف بتثاقل قاصدة الحمام , تمسح عن جسدها ذنب خطايا أمس , ينسكب شعرها الأحمر المتموّج على كتفيها العاريين , شعر متمرّد غاضب تزيل منه بتبرّم ما لصق به من قبلات و روائح و لمسات .. اللعنة

تحاول أن تتذكّر كم مرّ عليها من الزمن و هي على هذه الحال , منذ متى غدا جسدها ملكا جماعيّا لا تبخل به على الدافعين .. تحاول التذكّر فيقفز لها من بين كلّ الوجوه القاتمة وجهه , شاربان دقيقان , لحية خشنة تتهدّل على صدره العريض , يد معروقة قد تعوّدت على الصفع , تمسك بقسوة بيد بيضاء رقيقة , يد طفلة صغيرة , عيناها كحلم بعيد , طفلة يكفّنها في السواد , طفلة تشبهها.

تطرد عنها الذكرى و تتشاغل بارتداء ملابسها ,ثوب أحمر اللون مثيره , فلم تكن تدري لما تمقت اللون الأسود و تتحاشاه ,, ربّما لأنّه كان رمزا أبديّا لقيدها .
ترتدي الثوب الخفيف و تبارح منزلها الصغير ,أعين الجيران تحدجها غضبا , الهمسات تحيط بها "شابة دون عائلة تستضيف الرجال كلّ ليلة , شابّة تمثّل خطرا على أطفالنا و وصمة عار في حيّنا " .

شابّة بلا عائلة , نعم هذا ما هي عليه , هذاهو جرحها و زهوها , غبطتها و كمدها . و تضحك بإغراء , أليست هي من كسرت قضبان سجنها ؟ من هربت من أياد خنقتها لسنوات ؟ سنواتها الستّة عشر تبكي ألما فتواسيها سنواتها العشرون بحنوّ امرأة ثكلى .. المرأة الصغيرة تحضن الطفلة اليتيمة التي عانت كثيرا .. أربع سنوات قد مرّت و هي تغرق في هذه الدوّامة السرمديّة الألم ,دوّامة من اللّذة التافهة و الألم الزاهي .

تلقي بحطام جسدها على مقعد مقهى فخم , تتحاشى أعين المعجبين و تغمض عينيها , الذكريات تجتاحها فتغرق في مرارتها .

ترى نفسها طفلة جميلة العينين , ملاكا طاهرا محبوسا في قفص مليء مطوّق بالأشواك , تمرّ السنوات فيجنّ الملاك المحبوس و يستحيل شيطانا غاضبا يرضى بأن يدمي جسده بأشواك القفص , دماؤه تتساقط بينما يطير كعصفور صغير بعيدا .

كان ذلك منذ أربع سنوات , يوم نزعت عنها الأسود الحالك و تركت منزل أبيها , كان يوما لن تنساه , كانت طفلة تسكنها

الأحلام الورديّة الطفوليّة , تحلم أن ترتدي ثويا و ترقص حافية القدمين في الطرقات , كانت تتوق للغناء .. لكنّ الكلمات الصارمة كانت خناجر تجلدها " الرقص حرام ,الغناء حرام , صوتك عورة جسدك عوره , كلّ ما فيك عورة " كانت الوصايا المقدّسة طوقا حادّا ترتديه قسرا , إلّا أنّ كلّ محاولة تمرّد تقوم بها كانت تجازى عليها بصفعات قاسية من تلك اليد العنيفة التي كرهتها , يد أب يرى شرفه بين فخديها , شرفا تافها أبكم ,. أب يرى جسد ابنته شيطانا وجب قمعه.. كم كرهت ذلك الأب الذي ما تركها تدرس إلا لأن القانون حاصره, كان نبأ إرساله إلى المدرسة قد ملأ قلبها الصغير غبطة لكن قيود والدها دنست فسحة حريتها الوهمية .. كان يقتحم المدرسة كضبع لتأكد من أن شرفه لايختلط بالذكور , كان كبت أبيها يدميها , يؤجج فيها الحرمان من الحياة ... كرهت المدرسة ,مقتتها , كانت عذابا خنقها ' كان اختلافها يقتلها , صرخات التلاميذ ,ركضهم , لعبهم سويا , يشعلها غيرة ,ملابسهم الطفولية البريئة تسعر نيران نفسها , فتنظر قنوط قاتل إلى جلبابها الأسود و خمارها الحالك , قيدها و سوطها , الشرف الكاذب ..

كانت تواصل العيش كميتة , جثة تتقاذفها لجج الحياة ' تنكب على الدراسةلعلها تعتقها , تبلغ الخامسة عشرة و القمع و الذل يأبيان ألا يشلاها , تتفحص وجهها و جسدها كل ليلة في المرآة القديمة, تتحسر على شبابها و تضاريس جسمها الغض , و تلعن السواد و الجلباب و والدها ,تلعن أمها التي تركتها يتيمة تتقيأ العادات و التقاليد البالية ..

و أضنتها يوما سنين العبودية و الحرمان فسقطت تبكي , تتوسد أرضية فصل فارغ , تستفزها برودة الأرضية فتدفئها مغذية حرمانها الذي طال و اشتد .. فما شعرت إلا و يد تمتد إليها تمسح عبراتها الحارقة , تجذبهافي قوة و شوق !

رفعت عينيها بحياء فباغتتها عينان ثائرتان , شهقت بخوف فاحتوت شفتيهاشفتاه بحنان صامت , أغمضت عينيها و نامت في حضنه , تريح على صدره إعياء و حزنا نخراها لسنوات ...
كانت تلك المرة الأولى التي يعاملها فيها أحدهم بحنان مثير ، امتدت يداه تزيحان الخمار عن شعرها الأسود المموج فما امتنعت ،كانت تبكي بصمت ، تشل الصدمة ساقيها فتعجز عن الوقوف ، و يذوب الانفعال جسدها فتمتنع عن المحاولة ! كان ذلك اللقاء الأول ، الحضن الأول .. كان نضال شابا ثائرا يؤمن بالثورة و المرأة ، كان يمسك يدها المرتعشة طويلا و يقرأ لها روائع درويش و مشاكسات مظفر النواب ، كان يتلذذ قراءة إبداعات نوال السعداوي و يصرخ فيها طويلا أن تتمرد و تثور على سجن أبيها .. فقط في دفء أحضانه وعت أن لهاحقوقا تطالب لها ، فقط في غيبوبة قبلاته الهادئة فهمت أنها ملحدة و أنها تكره أباها و تمقت فكرة وجود اله أعلى يستعبدها ، بين يديه و هو يمزق خمارها و يلقيه أرضا ملأها الزهو لكونها صاخبة الجمال ثائرته ! كان نضال إلهها المقدس و أباها الحنون ، كان أستاذها الصبور ، كان اضطرام الهيام في صدرها ! كان نضال حياتها فكيف إذن لا تثور و لا تجن يوم يعلمها صاحب اليد الغليظة بقرار تزويجها من أحد إخوانه الشيوخ ؟ كيف لا تصرخ فيوجهه و تلعنه ؟ كان ذلك يوم تحرر السجينة ، يوما عاصفا بحق ! ما كانت لتظن يوما أنها ستتغلب على مخاوفها و ستتحداه ، ما كانت لتتخيل يوما أنها ستواجه أباها بشعر متمرد غاضب و ثوب قصير أحمر، ما كانت لتحلم يوما أنها ستلقي الخرقة من شعرها فيطردها أبوها، يصرخ بها و قد طعن شرفه أنه صار منها براء ! ركضت وجلة خائفة ، إلى نضال ، يفتح العاشق الباب فيصدم بقطة شرسة ترتمي بين أحضانه مرتعشة ، تتداخل قبلاتها بعبراتها ، و تمتزج تنهداتها بعباراتها ! "نضال لا تتركني وحيدة أبدا". لكنه ما وجد صعوبة في أن يصدمها "آسف ، عليك أن تغادري، قد يأتي والداي الآن " تغادر منزله و الإحساس بالاهانة بثقل خطواتها..

و تجد نفسها وحيدة في الأزقة المخيفة التي ما اعتادتها ، لأول ليلة تواجه الظلام بمفردها ، لا أحد معها ليحميها ، الخوف يزعزع أشلاء شجاعتها ، تكاد تقرر العودة إلى أبيها فتزأر في نفسها النفس "أنت امرأة قوية و لا تحتاجين رجلا ليحميك"

تمشي بثبات وهمي ، ترتعش ساقاها رهبة ،تقصد منزل إحدى زميلاتها و تترجاها لن تستبقيها في منزلها لليلة ، تسكب بين يدي أبويها ما تيسر من عبراتها ليشفقا عليها .. لكنها ما ان تمددت في الفراش حتى انبرت تقرع نفسها، تبكي على متاجرتها بحزنها ، تصرخ في نفسها " أهذه هي الحرية ؟ الذل و المهانة و البكاء ؟ أهذا هو معنى الحرية ؟ أن أتسول مكانا أنام فيه ؟ " و أمضت ليلتها مكسورة حائرة ...

كان نضال أملها الوحيد لكنه غدا ألمها الأوحد، قصدته صباحا فأعلن لها ببرود أنه لا يقدر على التكفل بفتاة هاربة من منزلها ، حدثته عن الثورة و عن التمرد ، ذكرته بالحب و التضحية ، فأجابها و عيناه تهربان من نظرتهاالدامعة "كلام كتب" ! مسحتها دموعا حرى و غمغمت بابتسامة باردة "كان علي أن أتوقع ذلك" .

الطريق طويل و هي تمشي وحيدة ، تلوح الشمس للأرض مودعة ، فيتسرب الخوف إلى نفسها ،الليل و الذئاب البشرية ذات الأظافر الحادة و الشهوات المريضة ، تحاول إيجاد حل فتعجز ، طفلة في السادسة عشر بلا مأوى ، بنية تغري ثمار جسدها الناضجة في الجني ، ضائعة تتمنى الخلاص فلا يجيبها بين سكون الليل الباعث على الرهبة ..

تقترب منها السيارة الفاخرة ، يطل رأس رجل أنيق "وحيدة في الليل ؟ أ أوصلك إلى مكان ؟" تضاربت الأفكار في رأسها الصغير، لا خيار لديها ، لعنت أباها و نضال و أمها بينما امتطت السيارة و جلست وجلة قرب الرجل لغريب .

"أ أوصلك إلى مكان معين ؟"

"ن..نعم"

"أين؟"

و ما عرفت نفسها حين أجابته " إلى بيتك"

كانت تلك الليلة الأولى و ما كانت الأخيرة، صار لها منزل صغير تسكنه بل تجعله مكان عملها ..

اعتادت العمل الليلي ، شبعت من أجساد الرجال المتشابهة ، الرائحة نفسها ، الأصوات القذرة ، الشهقات ، المبالغ المالية المتفاوتة ....

أربع سنوات مرت منذ كفرت برب هذه الدنيا، أربع سنوات و حياتها صخب ممل , حياتها وجع سرمدي.. ..

تفتح عينيها و تشعل سيجارا، تمسح الدمع المر الذي غطى وجهها دون أن تشعر ، تعود إلى وعيها ،فيباغتها وجه مثير للذاكرة ، يجلس ساكنا قبالتها ، لحية ثائرة ، عينان متمردان هادئان ، يقترب منها الرجل و يحضنها بعنف"حلمه ، كم أنت شهية و أنت تبكين""!

عادت تختنق بالبكاء دون وعي ، لا تزال تذكر تلك الرائحة الفريدة ، ذلك الإحساس الذي افتقدته لأربع سنوات ، لا تزال ترتعش جراء ذلك الصدر الحاني، ذلك الصدر الذي ماانفكت تتألم شوقا و احتراقا له ، لازالت تذكر هذا الجسد الذي قتلها حنينها إليه ، ذلك الرجل الذي فتشت عنه بين آلاف الرجال ... مابين حنوه و انهيارها

، مابين شهقاته و بكائها ، مابين استنكار صاحب المقهى لالتحامهما و متابعة الزبائن المشهد بلذة، صرخت و هي تتشبث به مخافة أن يهرب " نضااااااااااااااال

ختام حفيّظ
حلمة-