المجتمع المصغرّ

femme-pensiveNaïma Dams - نعيمة الدّمس

لست مازوشية لكن من الضروري أن  أستشعر معاناة اليوم حتى تتجذر ذكراها في مخيلتي فلا أنسى يوما كنت عليه يوما ما. لذا كلما دخلت المعهد - المجتمع المصغرّ - أحاول أن أحتكر نفس الموقع.

إذ منذ اكتشافي لقيمة الإحداثية التي يظفر به جسر المعهد عملت أن أصبو إليه كل صبيحة لأتمعن مجتمعي. أسند يدي على مقابض الجسر أخفض راسي لأرى شوارع الأمة و بلاإرادية عجيبة ترسم شفتاي خمسين تقسيما في الثانية الواحد, تنقلب تقززا , تحتك ببعضها فتطبق معلنة بكمها, تتقوس لعجزها عن مقاومة قتامة المشهد بغير التمزق الوجدانيّ الداخليّ...

أرفع رأسي إلى الأعالي . حركة ارتد إليها كلما خدرني الواقع الخرافي حتى أتذكر نقاء السماء التي رغم علاوتها و بعدها بلغها بشريّ المائة و الستين سنتمتر و تجاوز ما تليها...فيوقظني تفاءل باذخ  .. نقطة المنشودة رغم بعدها ليست محالة الوصول.

يمكن لهذا المجتمع أن يدخل أدراج الحضارة. لكن من ومتى و كيف ذلك ؟ فالسماء اللازوردية أضحت حلبة لنوع جديد من السباقات '' السباق الجوي للأكياس البلاستيكية الملوّنة '' كانت منافسة من الصنف الثقيل.. فأعداد المشاركين تتجاوز العشرات و كل يتبختر بصبغة ألوانه و مهارته التحليقية و خفته المستفزة لمنافسه .

  كانت اللمسة الخريفية مزدوجة الوظيفة , كحرباء متحوّلة... لا تكتفي بتزويد المشارك بوقود المواصلة فقط بل و تعده فيزيولوجيا و تدعمه كجمهور عظيم بتصفيقاتها المتتالية بل و  تضاعف التشجيع بإرسال صفاراتها اللعينة لهذا العرض المبتذل .... الأعالي هسترتني و المنخفضات خدرتني بسقمها. فلم أجد بدا إلا في أن أصوّب عيني إلى الأمام. الأمام و يا ليت المول أخذ بأنفاسي و أدركتني المانية قبل أن أشهد فاجعة اغتصاب الوطن أو بالأحرى الشرف.

كانت الثامنة و خمسة دقائق و لازالت القيّمة على المعهد تتبختر بين نخبة المستقبل املة أن يتكرّم واحد منهم  على هذا العلم و لو لبضع ثواني لأداء واجب تحيّته و لكن من يستجيب للنداء. ترتفع صفارات الجرس فتتقدم القيّمة و تصعد الأدراج المعاقة بارتفاع يبلغ المتر ونظرا لتصحّر المتطوعين تختار أن تربط طعمها و تبدأ رحلة الصيد.

كان المشهد اية في التفزيع و كأنه اقتباس من أشرطة الاعاصير . هي في موضع حمولة إعصارية عارضة يدها الصافعة و هم أقزام مخطوفة رهبة تحاول جاهدة التراجع هربا من براثنها.و لكن مهما هربنا في خضن كل فاجعة لا بدّ أن تسقط الضحايا. حصيلة الضحايا كانت شابان اثنان ,  يتيمة بورقيبة و رفيقها , من قيلا عنهما '' نساء البلاد و رجالها''  . بتأفف ملحوظ تقدما , لأداء واجب الأبناء تجاه الآباء عند الكبر تقدما . بتكشيرتهم و تأففهم لطخوا لوحة '' الأرض الخضراء السعيدة '' و اسمها النفاقي الذي يجعلك تتساءل عن كم من قارورة خمر كلفت صاحبها.

كأي متمعن بشري يتجوّل بين أركان هذا المعرض و بشاعة صوره المأثرة تتطاير من ثغرك الكلمات الساخط اللاعنة و أحيانا المقذعة و لكنك في الان نفسه كأي مغفل تخمد نيران حرقتك لما  تقابلك بطاقات أعدادهم المعلنة تمييزهم الدراسي و في لحظة جهل بكونيتك و كونيتهم و إحداثيتك و إحداثيتهم و الرحم الذي أجهضك و أجهضهم يخيّل لك أنك أمام بيضة عظيم ستفقص يوما ما لتنقر على بالونة القرف فتفجرها . و لعجزك عن الفصل بين تعليمنا - عفوا تلقيننا - و بند التثقيف و عالم الأخلاق تقتنع نفسك بتوفر هذه الجزيئات في طبخة واحدة '' المدرسة التونسية ''

بقلم نعيمة الدّمس

المجتمع المصغرّ