محاولات بطعم الليمون
Ellai Bouafif - آلاء بوعفيف
و هو يعدّ كوب الشاي بالليمون يفكّر في الطرق المستحيلة لتحقيق أحلامه المهترئة و في العصافير المهاجرة طوعا إلى امكنة دافئة. ينظر من نافذة الغرفة الضيّقة إلى الشجرة الوحيدة في حديقة البيت. اهتزازات أوراقها تبعث في قلبه شجنا حزينا و تحرّك ما تيبّس في صدره من تنهيدات و تساقط الوريقات الأولى من أغصانها يسنده إلى أعمدة الخوف و الاستنكار.
الساعة الآن السادسة صباحا.. لفحات البرد الموجّهة الى وجهه و كفيّه تباشر أيضا في تجميد مشاريعه اليوميّة. سيكمل ترشّف كوب الشاي بالليمون.. سيشعل سيجارة او سيجارتين.. سيلبس حذائه الوحيد و معطفه الوحيد و شاله الازرق.. سينتظر ساعة او أكثر الحافلة الصفراء.. ستضيع هويّته بين عشرات الاجساد الملقاة على المقاعد و سيغدو رقما مقتطعا في تذكرة..
هذا الرقم أيضا سيحظر محاضرات مملّة عن القانون الدستوري و النظريّة العامة للحقّ و سيشرب إكسبراس في المشرب الجامعيّ ليحققّ شهادة اخرى تثبت انه لا يختلف عنهم كثيرا .. سيستمع إلى خطابات الاتحاد و تهليل الطلبة و تصفيقهم و صفيرهم.. (غالبا ما يشدّه الجزء الاول من الخطاب ثم يواصل مسيره شاقّا الزحام) و حين يعود إلى خلوته في الغرفة الضيّقة سيحاول البحث عن وجهه و بصمات يديه تحت سريره و بين كتبه غير واع بانّ النسمات الباردة المنبعثة من النافذة المفتوحة قد جمّدت هويّته وألقت به في سجلّ المفكّرين في الطرق المستحيلة لتحقيق أحلامهم المهترئة. قرّر ان يقضي نهاره كما استفاق إذن.
سيستمع إلى الشتاء.
الشتاء هو الصوت.. الصوت المبلل الذي يشقّ أخاديد هذه الروح المضطربة. حتّى أنه حين يأتي فجأة هكذا بلا مقدّمات يرتجل معزوفات أنيقة ليغمس فيها كلّ أحزاننا. الشتاء.. لون آخر للحياة الفخمة.. و المطر خفيفا كان أو ثقيلا ينبت من الإسفلت رائحة العشق المطمور و يمهّد للربيع القادم. "الأحلام.. الأحلام يا صاحبي.. متى ستزهر؟"
طرق بابها ثلاثا و حين تيقّن انه مفتوح دفعه بخفّة.
كانت جالسة إلى مكتبها ككلّ صباح. تكتب ما علق بذاكرتها من الليلة الفارطة و تؤجج مشاعرا أخرى وجب أن تعاش. كانت رقيقة كحواشي ياقته البيضاء سخيّة في عطائها للورق كعصفورة هاجرت الصقيع لينعم ريشها بأشعة الشمس. باغتتها نظراته إليها فقامت على عجل ترتّب ما أحدثته الأفكار من فوضى في شعرها القصير. بانت رقبتها الملساء كقطعة ثلج او مرمر تحت القصّة المغرية و ظهرت فراشة تحت السواد لتوقظ فيه الحنين.
أربع سنوات يا احلام.. و مازلت كما عهدتك.. تتنصّلين من واقعك لترمي بنفسك في عزلة أدبيّة تشخصن مزاجك و تصفّي جسدك من ترّهات الوجود الإنساني. تلغين الخراب في عالمك الورديّ و تبعثرين أصول الدمع و أزمنة المواجع. كم صرت غريبا عنك و كم صرت بعيدة حدّ الثمالة.
قبّلتني بحرارة كأن الأربع سنوات الماضية كانت رذاذا لغيمة عابرة. و في لهفة أخذتني إليك دون ان تنبسي بحرف واحد. خلعت عنّي معطف الوحدة و الشال الأزرق و غبت بي في متاهات الآخرة. مازلت أتذكر انك تعشقين العلاقات الصباحية و مازلت تتذكرين أن ما من عمر يمنعني من تقبيلك بشغف اكبر.
ممارسة الحبّ تحت أنظار بودلير و إيميل سيوران و رامبو و شعراء الجاهليّة يزيد في حدّة إيقاع نبضينا و لعلّ نبتة الحبقة التي تعتنين بها منذ مدّة تشاركني سيمفونيّة العشق في أحضان كاتبة مع كلّ تمايل و انحناء تقوم به. أشتاقك جدّا لو تعلمين.
حين كنّا صغارا كان أطفال الحيّ يهزؤون منّي لانني كنت أقتفي اثر اجمل فتاة في المدرسة دون تجاوب منها.. كنت في سنتك النهائيّة حين وطات قدماي ساحة المدرسة للمرّة الاولى. لكنّ قلبي كان رحبا كفاية ليتّسع لكلّ هذا البلل في عينيك و كلّ هاذي المنحنيات في جسدك.
ضحكت عليّ مرّة. كان ذاك يوم أسقطت عمدا ورقة صغيرة من يديّ أمامك. حتّى أن الكلمة التي كتبتها فيها كانت ضربا من الحروف الرديئة الخط المعصورة بعضها على بعض. شكوتني إلى أمي. ثمّ أصبحنا صديقين.
حين كنّا صغارا قلت انّك ستصيرين كاتبة و اخترت لي أن أكون قارئك.
كانت أمنياتنا بسيطة و هشّة كالعالم و كان النظر إليها عن بعد اشبه بانتظار شتاء قريب خلف النافذة.
صار الصباح دافئا جدّا لدرجة اننا صرنا عراة بالكامل. عراة أمام المرآة التي دعمت صورنا القليلة و عراة أمام أنفسنا حتّى. أحتاجك جدّا لو تعلمين.
و أنا اعدّ كوب الشاي بالليمون أفكّر في خلع ذلك الباب الذي يحول بيني و بينك.. في السنوات الأربع التي رسبت فيها.. في الكم الهائل من السجائر التي طحنت جهازي التنفسيّ في غيابك.. في تذكرة الحافلة الصفراء التي صارت وجهك..في صوت طلبة الاتحاد المنادين بمستقبل شبابي أفضل.. في "اكسبراس" العاشرة صباحا التي تثبت اني لا اختلف عنهم كثيرا.. أفكر فيك يا أحلام و أسعى جاهدا (لكن دون جدوى) لإنارة الطرق المستحيلة إليك.
آلاء بوعفيف
Website Design Brisbane