كان المسجد
Naïma Dams - نعيمة الدّمس
عندما كنت طفلة، كان المسجد من أكثر الأماكن التي كنت أتحرق شوقا لإرتيادها، كان بالنسبة لي جنة دنياوية لا تقاوم، لوحة مركبة من قطع البشاشة و النقاء و الطهارة
كل الحرمان الموجود خارجه يعوض داخله، كل الأشياء البهية التي يعجز انسان عادي عن إقناع الآخر بها، تجدها مجرد حجرة تافهة أمام قدرة الإمام الذي شاب الشباب فيه و هو يسعى إلى فهم الله،
الذي علمنا لسانه الغزير الساحر بعد كل خطبة، أن الله يحب من يجتهد لفهمه و ليس من يحبه حبا أعمى،
لقد كان بيت الصلاة مكانا أبيدت به كل الحساسيات التي يمكن أن تزرع بين البشر،
لقد كان مكانا لا يمكنك ان تتنفس به إلا النفس التونسي الزيتوني الطاهر، السخيّ...
لم يكن للناس أنذاك من هذه الزيارة، إلا رغبة واحدة ألا و هي التعبد لله، و تأكيد وفائهم له و لتعاليمه،
لم يتعلم هؤولاء عن العلاقة بين المؤمن و ربه إلا شيئا واحدها : عموديتها، نقائها من كل نتوءات العرف و ما يقول عمر و ما يضيف زيد،
كان تعبيرا صارخا عن المسلم التونسي المعتدل، المتسامح،
بالنسبة لليوم فإني أجد دور العبادة من أثقل الأماكن على قلبي و ذاكرتي و
كأنه وطن تم غزوه، من قبل مجانين وقع إطلاقهم لتوهم من براثن مصحاتهم
المؤلم في هذه الغزوة أن الغاصبين لا يزالون رافعين لنفس الشعائر التي نرفعها و متشبثين بقشورنا و هويتنا مع إحداث بعض التشويهات عليها
لقد أصبح المسجد عنوانا للإكفهرار و القتامة
لقد تحولت البشاشة التي عهدتها إلى حواجب مقطبة و شفاه تتقلب لتعلن اشمئزازها و تحسرها،
لقد رميت المصافحة بين المسلم و أخته و البسمة المشرقة في صندوق نواقض الصلاة
لقد تفرع الخط العمودي الذي يجمع بين الله و عبده إلى تفرعات اخرى اهمها : مشية الآخر، نظرة الآخر، أردية الآخر، مواقف و معتقدات الآخر .
و انتهى عصر الامام الواحد، و أمسى الجميع واعظا يقدم الدروس و يتفلسف حسب ما يريد،
و أصبح للخطب أطروحات مقززة، لا تتعد مكبوتات العرب الجنسية و أفكارهم الهستيرية خاصة تجاه هذا الموضوع،
و أمست منابر لتكفير الاعلامي الفلاني و الكاتبة الفلانية الملحدة المعادية للإسلام
، و صيرت إلى سوق لاقناء العقول الفارغة و تسفيرها الي حقول الإجرام و الوحشية
و بعد أن كنا نسمع التحية كلما مررنا من أمامه، أصبحنا لا نسمع إلا الاستعاذ و العبارات الخادشة و كأن شياطينا ما قد مرت بالمكان،
و ابن الجارة الذي كان يشعر أن رجولته قد تسقط إن فتح كتابا أو حفظ بيتا، أصبح واعظا، يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر الذي تعلمه في مقرات آكلي العقول...
أصبحت أفضل غرفتي لأداء واجباتي على دخول ذلك الخندق الأفغاني الذي يمكن أن يشابه كل شيء إلا شيئا واحد : تونس
بقلم نعيمة الدّمس
Website Design Brisbane