استسلمت

sadness-alone-writingYosra Missaoui - يسرى الميساوي

جلست إلى مكتبها، وضعت الدفتر أمامها، امسكت القلم بيد مرتجفة، علها تنقل ما بداخل قلبها من وجع على الورق، او تقتلع بعضا من آلام روحها و تلقي بها على أسطر الدفتر.. عسى أن يخف وجعها أو تُشفى..

أسندت رأسها على كف يدها اليسرى ممسكة القلم بأنامل مرتعشة محاولة عبثا ان تكتب شيئا ما..و كأن خزينة الكلمات قد جفت، و كأن الحروف اُغتُصبت، و كأن قلمها قد خانها..

أخرجت من حقيبتها علبة السجائر..

اشعلت سيجارة..القت بثقلها على الكرسي..اغمضت عينيها.. سحبت نفسا عميقا نسيت خلاله وجودها.. كانما رحلت الى عالم اخر.

نفثت الدخان من فمها مطولا و كأنها تلفض ما لم تُعِنها الكتابة على التخلص منه..

نفثت حتى آخر نفس متبق في رِأتيها..

اعادت الكرة مرارا و في كل مرة كانت تتمعن النظر في السيجارة.. سجينة بين اصبعيها.. لا حول لها.. يلتهمها اللهيب..

.. تحترق في بطء..

ترمُقها بشيء من الشفقة تُلحقهُ ببعض من التشفي.. اتُراها ترى ذاتها في تلك السيجارة فتشفق عليها..? ام تراه العالم بما يحمله لها من خيبات و شقاء يحترق بين يديها فتستمتع..?
سيجارة تلو اخرى و لم تستقر نفسها  بعد إلى حال..!

ما كانت هذه عادتها و لم تعرف السجائر يوما طريقا الى شفتيها..  كل ما في الامر انها اكتسبت بعض العادات السيئة يوم فقدت من كان سندا لها في هذا العالم الذي لم تشعر يوما انها تنتمي اليه الا بقربه.. ذلك الذي احاطها بالعطاء من كل صوب.. غمرها بالأمان و الدفء..صنع من قلبه بيتا لها..كان وطنها الصغير الذي تهرب اليه كلما رفضها الوطن الكبير..

لم يكن احد يفهمها بقدر ما كان يفعل..

لا احد كان يصتبر على حماقاتها، جنونها، مزاجيتها الحادة..

لا أحد كان يحترم لحظات صمتها اللامتناهية حتى يخيل إلى جليسها أنها فقدت القدرة على النطق أو أنها ستكتفي بالصمت أبد الدهر..

فقط هو كان يحتويها في كل حالاتها، يجتاحها في لحظات صمتها فيكتفيا بحديث الارواح..

فقط هو في حضرتها تحلو له لحظات الصمت فيتقاسمها معها بشغف..

و ان نطقت يحلو له الاصغاء..

...

امتلأت الغرفة بدخان السجائر حتى ضاق نَفَسُها..

و كأن الكون يتآمر عليها.. و كأن ضيق الدنيا من حولها لا يكفي ليشد خناقها.

أحست بشيء ثقيل جاثم على صدرها يمنع الهواء من بلوغ رأتيها..

أحست فجأة بدوار بسبب نقص الأكسجين المنقول الى رأسها.. حتى كريات دمها الحمراء أبت إلا أن تشترك في المؤامرة المحاكة ضدها.. انتفضت، أسرعت في خطى غير متزنة نحو

النافذة.. دفعتها بما تبقى لها من جهد.. اخرجت رأسها من النافذة تستجدي حبيبات الاكسجين   أن تدرك طريقها داخل ذلك الجسد المنهك..

استقرت حالتها قليلا فتحاملت على نفسها و غادرت غرفتها الى حديقة منزلها الصغيرة. فتحت ذراعيها على مصراعيهما، رفعت رأسها عاليا، سحبت نفسا عميقا حتى امتلأت بطنها
بالهواء.. أحست أخيرا بذرات الأكسجين تتسرب الى جميع شعيراتها الدموية.

راحت تمشي حافية القدمين..

علاقة غريزية تجمعها بالأرض، علاقة طفلة بأمها. هي لها منبع القوة و الطاقة، سر الحياة،رمز العطاء..لا شك في أنه حين قُطع الحبل السري عند ولادتها و فُصلت عن أمها، نُسِجَ حبل سري

آخر ليربطها بالأرض..

هي منها و في حضنها تستكين.. متى لامست بقدمين عاريتين التراب،  إلا و موجات من الإنتعاش و السكينة تتسرب الى روحها..

و ما أحوجها في تلك اللحظات الى جرعة من السكينة..

مسحت الأرض بقدميها جيئة و ذهابا، كانت عزائها الوحيد في تلك الليلة، مَنفَذُ نفسها الوحيد نحو الراحة.

تخلصت أخيرا من القليل من الشحنات السلبية التي سكنتها من شعر رأسها الى اخمص قدميها. كانت  ثقيلة لدرجة أن أرض الحديقة رفضتها و لم تسعها..


رحمة الله بجسد يستغيث.!


انهكها المشي رغم صغر المساحة. افترشت الأرض كي تستريح..

سرحت بنظرها في أعماق السماء..

الليل حالك الضلام ..

تسللت بعض فوانيس المجرة و اخترقت بنورها الخجول السماء في محاولة لكسر تلك الظلمة التي تغشى عينيها . عبثا تفعل.. بالكاد كانت تلمح وجودها..

ان استفحل الظلام التهم كل شيء جميل حوله..

أو ليس من رحم الليل يولد النهار ..؟ فمال ليلها يطول! لا النهار يزورها و لا

قناديل الليل تظيء سماءها..؟

تبعثرت روحها،  خارت قواها..و  في انتظار ان تدركها رحمة الله، استسلمت.. لا تدري للنوم ام للموت..


يسرى الميساوي
استسلمت